المقالات القانونية

الأدلة الرقمية في النظم القضائية الحديثة بقلم المستشار الدكتور طارق رزق حداد المستشار بقضايا الدولة

الأدلة الرقمية في النظم القضائية الحديثة بقلم المستشار الدكتور طارق رزق حداد المستشار بقضايا الدولة

تعد الأدلة الرقمية من أبرز تطورات العصر الحديث في كافة النظم القانونية، تلك التطورات التي جاءت لتلائم الثورة العلمية والتكنولوجية والتقنية في عصرنا الحالي، والتي تطور معها الفكر الإجرامي، فظهر نوع جديد من الجرائم تعرف بالجرائم المعلوماتية التي قد يتعذر إثباتها دون الدليل الرقمي، لذا شغل فقهاء القانون المدني والجنائي والمشرعين بموضوع الدليل الرقمي لاسيما مع كونه دليلا مستحدثا وذو طبيعة معقدة وصعبة.

ويعرف الدليل الرقمي بأنه أية معلومات إلكترونية لها قوة أو قيمة ثبوتية مخزنة أو منقولة أو مستخرجة أو مأخوذة من أجهزة الحاسب أو الشبكات المعلوماتية، وما في حكمها والممكن تجميعه وتحليله باستخدام أجهزة أو برامج أو تطبيقات تكنولوجية خاصة.

في المقال التالي نلقي الضوء على إشكالية في منتهى الأهمية تخص الجرائم المعلوماتية تتمثل في قيمة الأدلة الرقمية – الإلكترونية – في الإثبات الجنائي، في الوقت الذي أصبح فيه عصر تكنولوجيا المعلومات ومع طغيان استخدام التقنيات الحديثة في شتى المجالات، التجارة الإلكترونية، والأعمال المصرفية الإلكترونية أو ما يعرف بالاقتصاد الرقمي أو الإلكتروني، والإدارة الإلكترونية والحكومة الإلكترونية، فضلا عن استخداماتها في مجالات الأمن الداخلي والخارجي، زادت الجرائم المعلوماتية.

في الحقيقة – زادت المخاطر التي يمكن أن تشكلها الجرائم المعلوماتية على الأمن الاجتماعي والاقتصادي للدولة، للدرجة التي قد تصل إلى حد تهديد كيان الدولة وأمنها القومي بارتكاب بعض الجرائم مثل التجسس الإلكتروني أو الإرهاب الإلكتروني، أو التحريض السياسي الإلكتروني، والتزوير والتزييف الإلكتروني، مما يقتضي إعداد العدة لمكافحة هذا النوع من الجرائم، سواء من الناحية التشريعية -بإصدار التشريعات العقابية، والإجرائية، الكفيلة بقمع هذه الجرائم، وضبطها وتحقيقها ومحاكمة الجناة فيها – أو من الناحية الفنية أو التقنية بإعداد الكوادر الفنية المؤهلة والمدربة على استخدام أحدث الوسائل والأجهزة لكشف وضبط هذه الجرائم واشتقاق وتفسير الدليل الجنائي فيها.

قيمة الأدلة الرقمية في الإثبات الجنائي

ولقد نصت المادة “11” من قانون جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 علي أن يكون للأدلة المستمدة أو المستخرجة من الأجهزة أو المعدات أو الوسائط الدعامات الإليكترونية أو النظام المعلوماتي أو من برامج الحاسب، أو من أي وسيلة لتقنية المعلومات نفس قيمة وحجية الأدلة الجنائية المادية في الإثبات الجنائي متى توافرت بها الشروط الفنية الواردة باللائحة التنفيذية”، ويثير هذا النص إشكالية حول طبيعة الدليل الرقمي من جهة وقوته في الإثبات من جهة أخري لاسيما في ضوء مبدأ حرية القاض الجنائي في الإثبات، وتذهب معظم الآراء أنه طبق لهذا النص يعتبر الدليل الرقمي ذات حجة مطلقة في الإثبات يصح للقاضي أن يؤسس حكمه عليه بمفرده ولو لم يعزز بأي قرينه أخري، وهو ما فيه نظر يصل لدرجة الخطأ.

إذ من الثوابت أنه ولئن كان القاض الجنائي حرا في الإثبات، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة إذ ثمة ضوابط تحكم عمله أولها أنه لا يصح أن يبني حكمه إلا على – دليل- أما ما دون الدليل أو القرائن البسيطة أو بالأحرى الدلائل، فلا يصح أن يستمد منها القاض اقتناعه، ويؤسس عليها بمفردها حكم الإدانة، وعله ذلك أن الأحكام الجنائية تبني على الجزم واليقين من الواقع الذي يثبت بالدليل المعتبر لا على الظن والتخمين حال أن الدلائل تقوم على الاحتمال.

مثال:

ومن أمثلة الدلائل التحريات التي يستقيها الضابط من مصادره السرية ويرفض الإفصاح عنها تحقيقا للصالح العام أو المعلومات التي يجمعها من جمهور الناس عند انتقاله لمحل الواقعة لفحص البلاغ مادام لم يحدد شخص بعينه نقل إليه هذه المعلومات، ومن أمثلة الدلائل أيضا التسجيلات الصوتية واستعراف الكلب البوليسي.

ما هو الدليل الجنائي؟

والدليل الجنائي هو كل إجراء معترف به قانونا لإقناع القاضي بحقيقة الواقعة محل الاتهام، والدليل إما أن يكون آثر من منطبع في نفس أو في شيء أو يتجسم في شيء يدل علي وقوع جريمة من جانب شخص معين، فإذا كان الدليل عبارة عن آثر منطبع في نفس كأقوال شاهد أو اعتراف المتهم كان الدليل نفسي، أما أن كان الدليل أثر منطبع في شيء كبصمة الجاني أو أثر يتجسم فيه كالمخدر أو النقود المزيف التي وجدت في جيب الشخص كان الدليل ماديا، وقد يكون الدليل كاملا يدل على وقوع الجريمة وعلى نسبتها إلى شخص معين، وقد يكون دليل جريمة فقط أي دليل وقوع جريمة دون نسبتها إلى شخص معين كرؤية شخص مذبوح أو التقارير الطبية وتقرير الصفة التشريحية ومعاينة المعمل الجنائي، والدليل في النهاية كما قد يكون بسيطا أي دال بذاته وبمفرده للقطع بوقوع الجريمة من جانب المتهم وقد يكون مركبا أي خليط أو مزيج من عده أثار تتراكم بحيث تقطع في النهاية بوقوع الجريمة من جانب الجاني.

وهو ما تطلق عليه محكمة النقض الأدلة المباشرة وغير المباشرة، والأخيرة اصطلح الفقه علي تسميتها بالقرائن أي استخلاص واقعة مجهولة – ارتكاب المتهم الجريمة – من واقعه معلومة وثابتة، كاستخلاص ارتكاب المتهم للسرقة من واقع ضبط المسروقات في حوزته أو وجود بصماته علي المكان محل السرقة دون مبرر أو استنتاج قتل المتهم للمجني عليه من واقع ضبط السلاح المستخدم في الحادث في منزله وعليه بصماته أو ضبط ملابسه وعليها بقع دم من فصيلة دم القتيل أو وجود أجزاء من جثه القتيل في منزل المتهم وكذا استخلاص هتك عرض المتهم للمجني عليه من وجود آثار لمني يخصه علي ملابس المجني عليه.

وكلما كانت القرينة قوية كان استدلال القاض بها مقبولا، وكلما كانت ضعيفة كان استدلال القاض بها فاسدا، وتكون القرينة ضعيفة كلما كانت لا تودي حتما ووفقا لطبائع الأمور إلي ارتكاب المتهم للجريمة، ومن أمثلة القرائن الضعيفة استنتاج الحكم ارتكاب المتهم للتزوير من واقع كونه صاحب المصلحة من التزوير أو من استعمال المحرر المزور أو توافر نية القتل من مطلق الضغينة أو الخلافات السابقة أو القتل للحصول علي الميراث أو لقبض وثيقة التأمين التي عقدها القتيل حال حياته لصالح المتهم، وهنا تظهر رقابة النقض علي قاض الموضوع إذ لا تترد في نقض حكمه للفساد في الاستدلال طالما استخلص ارتكاب المتهم للجريمة من قرينة ضعيفة لا تودي وفقا للزوم العقلي لما رتبه الحكم عليها.

علاقة الدليل الرقمي في إثبات الجريمة

ولما كان الدليل الرقمي لا يدل رأسا ومباشرة علي وقوع الجريمة ونسبتها إلي الجاني بل استخلص ذلك من واقع استخدام جهاز حاسب آلي يخصه مرتبط بخط تليفون باسمه، لذا كان الدليل الرقمي دليل جريمة، ولكنه في ذات الوقت قرينة مادية ضعيفة علي نسبت الجريمة إلي الجاني أو بالأحرى مجرد دلائل لا يصح بناء حكم الإدانة عليها بمفردها ما لم تعزز بأدلة أخري إذ لا تقطع بارتكاب المتهم للجريمة، إذ قد يكون حساب المتهم الإليكتروني قد تم تهكيره – اختراقه – أو أن خط الهاتف المرتبط بالحساب استخدمه غيره في غيبته، وكان الأصل عدم جواز الركون إلى تلك القرينة في الإثبات لأنها مجرد دلائل لا تقطع بنسبة الجريمة إلي صاحب الحساب أو الخط إلا أن بعض الآراء نسبة للمشرع انه رغب في أن يخرج علي هذا الأصل في المادة 11 من قانون جرائم تقنية المعلومات، بحجة أن المشرع  اعتبر الدليل الرقمي من الأدلة المادية وله نفس قيمتها إذ يعني لديهم أن يكون له قيمة قاطعة في الإثبات تغني عن تعزيزه بأي قرينة أو دليل آخر.

وهو رأي فيه نظر، إذ الدليل أي كان نوعه أي سواء كان ماديا أو نفسيا لا يكون له قيمة دامغة في الإثبات إلا إذا كان قاطع في وقوع الجريمة من شخص بعينه وهو ما تفتقر إليه الأدلة الإليكترونية، بل أنه طبقا لمبدأ حرية الإثبات الجنائي لم تحصر الأدلة ولا يحظى الدليل المادي ومن ثم الرقمي بحجية أمام القاض الجنائي، فله أن يأخذ به أو يطرحه تبعا لاطمئنانه له من عدمه، ومن ثم فإن ما جاءت به المادة 11 من قانون جرائم تقنية المعلومات من اعتبار الدليل الرقمي دليل مادي له ذات قيمة الأدلة المادية في نظرنا تحصيل حاصل وذكر لمعلوم.

بل أن الدليل الرقمي كذلك دليل فني لا يصح للمحكمة عند المنازعة فيه أن تدلي بدلوها فيه، وإنما يتعين عليها الاستعانة بأهل الخبرة المختصين ولا يقدح قالة أن المحكمة هي الخبير الأعلى، إذ شرط ذلك إلا تكون المسألة المطروحة على بساط البحث من المسائل الفنية البحتة التي تستعص على المحكمة أن تستجليها بنفسها دون الركون إلى أهل الخبرة، فهنا لا مجال للقول بأن محكمة الموضوع هي الخبير الأعلى، وأن تحل نفسها محل الخبير.

إقرا ايضا :

إشكالية نصف الأجر المحروم منه الموظف في حالتي الحبس الاحتياطي أو تنفيذا لحكم جنائي غير نهائي بقلم د/ محمد عبد النبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى