الهيئات القضائية

الجمهورية الجديدة وكنوز اليوبيل الماسي لمجلس الدولة (الجزء الثانى)

فى دراسة توثيقية تاريخية وحيدة لليوبيل الماسى لمجلس الدولة بمرور (75) عاماً على إنشائه , تفتح الجمهورية الجديدة فى عهد الرئيس السيسى كنوز اليوبيل الماسي لمجلس الدولة في السيادة الوطنية , تحكى دوره الوطني الغائب ضد الاحتلال البريطانى وتدعيم ثورة 1952 للمفكر والمؤرخ القضائي المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة المصري فى مؤلفه بعنوان : ” الغائب فى اليوبيل الماسى لمجلس الدولة تاريخ ومواقف : التراث العظيم للأجداد الأوائل لنشأة مجلس الدولة فى السيادة الوطنية ضد الاحتلال البريطانى وتدعيم مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 من الضباط الأحرار بالجيش المصرى ” وهى الدراسة التى حظيت بالاهتمام الوطنى للدولة , ونعرض لها لأهميتها التوثيقية المتفردة فى حياة الأمة المصرية .
ونعرض للجزء الثاني من تلك الدراسة لأسس التحكيم الدولى الحمائية ضد الاحتلال البريطانى عن القتلى من المتظاهرين وللتاريخ فإن أول فتوى فى تاريخ مجلس الدولة استغرقت 11 يوماً فى فبراير 1947 عن التحكيم بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية عن مقتل 42 مصرياً بمظاهرات الإسكندرية والقاهرة وإصابة 494 أخرين , ومقتل اثنين من قوات الاحتلال البريطاني والحل العبقري من الأجداد الأوائل ( هيئة تحكيم ثلاثية من مصر وبريطانيا والثالث بمعرفة رئيس محكمة العدل الدولية) على النحو التالي:
يقول القاضى المصرى الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة في أول وثيقة لمجلس الدولة أن حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء محمود فهمى النقراشى باشا – الولاية الثانية – طلب من إدارة الرأى لرئاسة مجلس الوزراء وديوان المحاسبة ووزارتي المالية والتجارة والصناعة بمجلس الدولة فى كتابه رقم1-1/165 المؤرخ في 13 فبراير سنة 1947 بشأن اقتراح الحكومة البريطانية الالتجاء إلى التحكيم على طريقة معينة في أمر الخلاف القائم بينها وبين الحكومة المصرية في موضوع المطالبة المقدمة منها للحصول على تعويض عن الحوادث التي وقعت بالإسكندرية في 4 مارس سنة 1946 و 21 فبراير 1946 بالقاهرة فى مظاهرات الطلاب والعمال ضد الاحتلال البريطانى والتى نجم عنها قتلى من الطرفين مقتل 42 مصرياً بمظاهرات الإسكندرية والقاهرة وإصابة 494 ومقتل إثنين من قوات الاحتلال البريطانى.
وأضاف الدكتور محمد خفاجى أن رئيس إدارة الرأى لرئاسة مجلس الوزراء وديوان المحاسبة ووزارتي المالية والتجارة والصناعة بمجلس الدولة حينذاك هو المستشار محمد على نمازى بك الذى ورد فى كتابه رقم 1/34/1-102 بتاريخ 24 فبراير 1947  أى بعد 11 يوماً فقط وهو ما يدل على أن مجلس الدولة ولد منذ البداية على الإنجار وسرعة البت فى الموضوعات بالقدر الذى يكفل تأصيل المسألة من جوانبها القانونية فى بحث مستأنى تحكمه الريث , وليس استعجالاً ينقصه أصول العلم القانونى الرصين كما تستسهل الأجيال الحالية , وأن الأجداد الأوائل عايشوا ميلاد القانون الدولي وأضافوا إليه من الأمانى القومية ما أصبح نهجاً دولياً تفخر به مصر في مسئولية الدول.
ويشير دكتور محمد خفاجى كانت وقائع هذا الموضوع بأكمله تتلخص – وكما يرويها كتاب رئيس إدارة الرأى المستشار محمد على نمازى بك إذ أنه أعدها بمفرده وهذا ما يبين من أسلوب مخاطبة صاحب الدولة رئيس مجلس الدولة بأسلوب المفرد العائد عليه – في أنه في صباح يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 انتظم طلبة الجامعة المصرية والمدارس الثانوية وغيرها من معاهد العلم , وكذلك طوائف من العمال في مواكب على هيئة مظاهرات سلمية سارت في شوارع مدينة القاهرة معبرة عن الأماني القومية وظلت الحالة هادئة إلى الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين مساء تقريباً حيث حدث في ذلك الوقت أن كانت بعض السيارات الحربية البريطانية في طريقها من شارع القصر العينى إلى ميدان الإسماعيلية .
وفي المسافة بين مبنى الجامعة الأمريكية وثكنات الإسماعيلية اقتحمت صفوف المتظاهرين فأصابت عدداً من الأشخاص نقلوا إلى مستشفى القصر العينى , وثبت من الفحص الطبي والتشريح لجثث من قتل أن أحدهم توفی فعلا نتيجة مصادمة سيارة , وقد كان هذا الحادث العارض السبب في إثارة شعور المتظاهرين وفي انتقال الحالة فجأة من الهدوء إلى الاضطراب الذي صاحبه وزاد من حدته إطلاق الرصاص على المتظاهرين من أفراد القوات البريطانية الموجودين في المعسكر المقام على الأرض المعروفة بسرای الإسماعيلية ومن ثكنات قصر النيل , وترتب عليه إصابة عدد من الأشخاص يناهز الخمسين ومع تلك الظروف الطارئة نتيجة تصرف سئ من أفراد القوات البريطانية تمكن رجال البوليس المصري من اتخاذ الإجراءات المناسبة لإعادة الحالة إلى طبيعتها الهادئة .
وفي يوم ۲۲ فبراير سنة 1946 قابل الوزير المفوض في السفارة البريطانية دولة رئيس مجلس الوزراء وطلب شفوياً العمل على معاقبة من ارتكبوا الجرائم ودفع تعويض عن الإتلاف والخسائر التي وقعت ومعرفة الإجراءات التي تنوي الحكومة المصرية اتخاذها لصيانة واستتباب النظام ثم أرسلت السفارة البريطانية كتاباً في ۲۳ فبراير سنة 1946 تكرر فيه ما تقدم إبلاغه شفويا .
وفي ۲۳ فبراير سنة 1941 أرسل دولة رئيس مجلس الوزراء المصرى رداً إلى السفارة البريطانية – نراه فى كرامة وكبرياء – أشار فيه إلى دهشته من لهجة التبليغ البريطاني وإلى أنه قد مضت خمس ساعات من بدء قيام المظاهرات السلمية دون وقوع أية حادثة , وأن الحوادث التي وقعت في يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 إنما كانت نتيجة لحادث سيارات النقل التابعة للجيش البريطاني ولإطلاق الرصاص من الجنود البريطانيين على الجماهير رغم أنه في اليوم السابق لهذه الحوادث قد تم الاتفاق بين السلطات البريطانية والمصرية على تفادي مرور رجال الجيش البريطاني في اليوم المذكور ,
ومع ذلك فإنه يصرح بأنه مما لا شك فيه أن الحكومة المصرية ستتخذ الإجراء اللازم لمعاقبة الأشخاص الذين ثبتت إدانتهم في الجرائم أو الجنح التي وقعت خلال حوادث يوم ۲۱ فبراير سنة 1941 وإنه من المحقق أن ما سيسفر عنه التحقيق القضائي من إتلاف و تخریب ستدفع عنه التعويضات اللازمة لمن حاقت بهم أضراراً.
ثم أرسل دولة رئيس الوزراء کتاباً أخراً إلى السفارة البريطانية في ۲۹ فبراير سنة 1946 کرر فيه أن حوادث الاعتداء إنما كانت تالية لما حدث من السيارات البريطانية وإطلاق الرصاص على المتظاهرين , وأن وجود المنشآت العسكرية البريطانية في جميع أحياء القاهرة والإسكندرية يجعل من العسير معه اجتناب الاحتكاك بين السكان والجنود , وبالرجوع إلى بيان عدد المصابين والقتلى في حوادث يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 يتضح أن ما حدث من تصرفات أفراد القوات البريطانية قد أدى إلى قتل خمسة عشر شخصاً وإصابة أربعة وتسعين .
وفي مارس سنة 1946 قامت بالإسكندرية من الساعة التاسعة صباحاً مظاهرات سلمية واستمرت الحالة هادئة وكان رجال البوليس يتخذون الإجرامات المناسبة للمحافظة على الأمن ولتفرقة المتظاهرين دون أن يقع من هؤلاء الأخيرين أي اعتداء , غير أن المتظاهرين لاحظوا أن فندق الأطلانتيك يرفع علم البحرية البريطانية.
وقد أشار أحد الضابطين البريطانيين القائمين على أمر هذا الفندق أنه استطلع رأى الرؤساء فيما إذا كان يمكن رفعه في ذلك اليوم الذي كان محددا من قبل لإبداء مظاهر الحداد فأجابوه برفعه – وكان رفع هذا العلم في ذلك اليوم مما أثار المتظاهرون وزاد في ثائرتهم إطلاق الرصاص عليهم من العمارات التي يقيم بها أفراد القوات البريطانية مما أدى إلى سريان الإشاعات بينهم عن مقتل البعض منهم نتيجة لإطلاق هذا الرصاص ,
وعندما قذف بعض المتظاهرين كشك البوليس الحربي البريطاني في ميدان سعد زغلول بالطوب قابلهم الجنود البريطانيون داخل الكشك بإطلاق الرصاص من المترالیوز باستمرار ووقع الكثير من المتظاهرين مصابين نتيجة لذلك , وحينئذ شرع المتظاهرون فجأة في مهاجمة هذا الكشك واشعال النار فيه .
فقامت قوات البوليس والجيش المصرى بكل ما في استطاعتها لإنقاذ أفراد القوة التي بالمخفر وتمكنت من إنقاذ ثلاثة منهم واخراج اثنين شقا طريقهما وسط المتظاهرين دون الانضمام إلى إخوانهم السابقين واستمر أحدهما يطلق النار على المتظاهرين , مما دعى إلى وقوع التصادم بينهما وبين المتظاهرين وكانت نتيجة ذلك إصابتهما بما أدى إلى وفاتهما .
وقد أرسلت السفارة البريطانية إلى دولة رئيس مجلس الوزراء في ۱۸ مارس سنة 1946 احتجاجا عما وقع في حادث 4 مارس سنة 1946 السالف الذكر أشارت فيه إلى أن عجز ولاة الأمور هو الذي أدى إلى قتل جنديين بريطانيين , وقد أجاب دولة رئيس مجلس الوزراء بكتابه المؤرخ ۳۳ مارس سنة 1946 بأن القوات المصرية قد أدت واجبها على صورة يستحيل معها اتهامها باللين أو التسامح وأن المشكلة الحقيقية التي هي مصدر المتاعب كلها محصورة في وجود القوات البريطانية في البلاد , مع أن الأمة كلها ترغب في أن ترى تلك القوات تنسحب خصوصاً وقد انقضى ما يزيد على السنة من وقف القتال.
وتبين من تقرير رئاسة نيابة الإسكندرية المحرر في ۲۰ مابو سنة 1946 أن عدد من قتل من المصريين بلغ ۲۷ شخصاً من بينهم نساء وأطفال وجرح من المصريين 342 شخصاً عدا كثيرين أصيبوا ولم يتقدموا لتوقيع الكشف عليهم مما يجعل عدد المصابين يربو على أربعمائة شخص.
وفی ۷ يونية سنة 1946 أرسلت السفارة البريطانية كتاباً أرفقت به تقریرین محررين بمعرفة السلطات البريطانية يشيران إلى أنه كان من الممكن إنقاذ حياة الجنديين لو أن قوات البوليس والجيش المصري تصرفت بحزم أو همة , وقد أجاب دولة رئيس مجلس الوزراء على ذلك في ۲۰ يونيو سنة 1946 بكتاب أرفق معه صورة من تقرير رئيس نيابة الإسكندرية ومن تقرير النائب العام وقد تضمن بياناً وافياً للوقائع الثابتة من التحقيق القضائي وأوضح في كتابه أن مسئولية الحوادث تقع على عوامل الاستفزاز التي أثارها رجال القوات البريطانية , وأنه يخالف للأسباب الموضحة في الكتاب وفي تقريري النيابة العمومية وجهة نظر الحكومة البريطانية في شأن اعتبار السلطات البريطانية مسئولة عن مقتل هذين الجنديين أو التزامها بأي تعويض عنهما .
وقد عادت السفارة البريطانية وأرسلت كتاباً في 7 أكتوبر سنة 1946 أشارت فيه إلى عدم موافقتها على أن رجال الأمن في مصر قد اتخذوا التدابير الكافية لحماية أرواح رجال البوليس الحربي البريطاني المشار إليهم , ونفت وقوع أية مسئولية من جانبهم , وأنهم لم يطلقوا النار إلا دفاعاً عن النفس ولذلك فإن الحكومة البريطانية تطالب رسمياً بالتعويض عن مقتل رجلى البوليس الحربي , وأشارت إلى أن رئيس الوزراء قد اقترح شفوياً أنه قد يمكن تعيين رجلين من رجال القانون من قبل الحكومتين ليجتمعا ويفحصا كافة الوثائق التي يمكن الوصول إليها ويراجعا الوثائق التي أدت بكل من الحكومتين إلى اتخاذ موقف معين في هذا الأمر , وذلك للوصول إلى أحكام يتففان عليها بناء على وقائع القضية , وأن الحكومة البريطانية ترى أنه من الأفضل التوسع في هذا الاقتراح واتخاذ تدابير من شأنها تسوية النزاع بصفة نهائية , أي أن النزاع ينبغي أن يحال إلى حكم واحد محايد رفيع الشأن قد تتفق الحكومتان على تعيينه أو عوضاً عن ذلك لو استحال تنفيذ هذا الاقتراح يعين من قبل رئاسة محكمة العدل الدولية , وأن الحكومة البريطانية لتفترض أن الحكومة المصرية لا ترغب في أن يتخذ هذا الحادث أهمية مبالغاً فيها فيما لو رفع الأمر بالفعل إلى محكمة العدل الدولية ذاتها .
وفي ۱۲ يناير سنة 1947 أرسلت السفارة البريطانية مذكرة أشارت فيها إلى أنها سبق أن سلمت في ۱۸ يوليو سنة 1946 إلى صدقي باشا عندما كان رئيساً للوزارة ملخصاً عن قوائم بالمطالبات المالية التي قدمها مدنیون بريطانيون بخصوص الاضطرابات التي حدثت في نوفمبر سنة 1945 وفي شهر فبراير ومارس سنة 1946 , وأنه في 31 أكتوبر سنة 1946 كتب المستر بوكر لإسماعيل صدقى باشا- إبان ولايته – خطاباً وبعث بقوائم أخرى بالمطالبات عن أضرار وقعت في نفس هذه المناسبات على أشخاص من العسكريين , كما استعلم عن مدى ما وصل إليه بحث المطالبات التي قدمت في ۱۸ يوليو وأشارت السفارة البريطانية إلى أنها لم تتلق جواباً على تلك المسائل .
وفی ۲۱ يناير سنة 1947 أرسلت السفارة البريطانية كتابا تشير فيه إلى أنها لم تتلق بعد رد الحكومة المصرية على اقتراح التحكيم السابق إيضاحه بكتابها المؤرخ في 7 أكتوبر سنة 1946
وإني ألاحظ – والكلام على لسان المستشار محمد على نمازى بك رئيس إدارة الرأى المذكورة ورأينا فهمه لقمة قواعد القانون الدولى العام فى بداياته – من الوجهة القانونية أنه لا تترتب قبل الدولة أية مسئولية دولية ما لم تكن قد أخلت بواجب من الواجبات الدولية المفروضة عليها وتلك المسئولية لا تنشأ إلا بين دولة ودولة حكمها في ذلك حكم العلاقات الدولية عامة , فيخرج بهذا أية المسئولية تنشأ بين الدولة والأفراد إذ المرجع في ذلك الحكم القانون الداخلى لا القانون الدولي العام , وعلى أية حال فلا مسئولية ما لم يثبت وقوع عمل خاطئ أو غير مشروع من الدولة.
وفيما يتعلق بمسئولية الدولة عن الأضرار التي تحدث نتيجة للمظاهرات والاضطرابات وتلحق بالأجانب المقيمين في أرضها فالأصل إنما هو تقرير عدم مسئولية الدولة عن تلك الأضرار باعتبار أن جميع الأعمال التي تقوم بها لحفظ الأمن تعتبر من الأعمال المتعلقة بسيادة الدولة وأن مطالبتها بتعويض في هذه الحالة يعتبر إجراءً ماساً بأعمال السيادة , إلا أنه يؤخذ في الاعتبار دائما عند بحث مدى مسئولية الدولة إثبات وقوع تقصير في بسط حمايتها على الأجانب المقيمين في بلادها استناداً إلى أن ذلك يمكن أن يعتبر عملا خاطئا صادرا من جانبها.
وأساس مسئولية الدولة في هذه الحالة إنما ثبوت التقصير الفاحش من جانبها في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع وقوع الضرر بالقدر المستطاع وفی تعقب الجانين الذين قاموا بارتكاب أفعال مخالفة للقانون ألحقت ضررا بالأجانب , ومن ثم فإن مجرد وقوع الضرر لا ينهض أساساً للمسئولية ما لم يكن ناتجاً عن إهمال جسيم , بل ينفي عن الدولة المسئولية قيامها باتخاذ الإجراءات المناسبة , ومدى الإجراء المناسب مرجعه طبيعة الحالة وما أحاط بها من الملابسات أو تداخل من عوامل فجائية , إذ لا يمكن مطالبة الدولة باتخاذ المستحيل بل ينحصر واجبها في اتخاذ الإجراءات الممكنة , ومن ادعی مسئولية الدولة في مثل هذه الأحوال فعليه اللجوء إلى القضاء إذا شاء.
وقد أتيح للدول فرصة مناقشة المذاهب المختلفة في مسئولية الدول عند اجتماعها سنة ۱۹۳۰ بناء على دعوة عصبة الأمم في مؤتمر تجميع قواعد القانون الدولي العام الخاص بمسئولية الدول عما يصيب الأجانب المقيمين على الإقليم من ضرر في أشخاصهم وأملاكهم , وقد ناقش أعضاؤه مختلف المبادئ والنظريات المتعلقة بالمسئولية الدولية في هذا الصدد , واكتفي بتدوين المبادئ التي تم الاتفاق عليها على شكل مواد , وقد نصت المادة العاشرة على أنه : فيما يتعلق بالأضرار التي تلحق بأجانب من عمل الأفراد لا تكون الدولة مسئولة إلا إذا كان الضرر اللاحق بالأجنبی ناشئاً عن تقصير الدولة في اتخاذ ما تستلزمه الحالة من الإجراءات لمنع وقوع العمل الذي سبب الضرر أو إصلاحه أو توقيع العقوبة على فاعله.
إلا أنه يلاحظ أن الكثير من الدول مع تمسكها بالمبدأ الخاص بعدم وجود أي التزام قانونی بالتعويض ترى في بعض الحالات منح تعويضات بباعث من العطف والرحمة أو الداعی المجاملات السياسية , وقد سارت مصر فعلا في أكثر من مناسبة على صرف تعويضات من باب العطف والمساعدة كما تفعل في حالات الكوارث والنوازل العوامل التي ترى التدخل فيها للتخفيف من أثر الأضرار , وأحدث قرار أصدرته في هذا الشأن قرار مجلس الوزراء الصادر في سنة 1935 وقد جاء فيه أن الوزارة لا تسأل قانوناً عن التعويضات في مثل هذه الظروف , غير أن المجلس یری من باب الإحسان تشكيل لجنة النظر هذه التعويضات وقد حدث مثل ذلك في سنة ۱۹۳۰ على إثر الحوادث التي وقعت في الإسكندرية والقاهرة وقد أصدر مجلس الوزراء قراراً في 14 سبتمبر سنة۱۹۳۰ بتشكيل لجنة لفحص ما يقدم من الطلبات في هذا الصدد والفصل فيها بالرفض أو تقدير التعويض المناسب على الأسس المحددة في ذلك القرار.
وقد جاء به أن الحكومة ليست مسئولة في الحق والقانون عن تعويض ما حصل من الضرر في تلك الحوادث , والواقع فوق ذلك أن ما بذله رجال الحكومة من الجهد الشديد وما اتخذوه من تدابير الحيطة والمحافظة على النظام كان له أفضل الأثر في اتقاء كثير من الأضرار , وفي تخفيف ما لم يكن ثمة سبيل إلى اتقائه من الأخطار , غير أنه يحسن مع ذلك أن تنظر الحكومة على سبيل التعطف والرأفة في أمر التعويض على من حصلت لهم أضرار في سباق تلك الحوادث , وقد جرت الحكومة في الحالات المتقدمة على غرار ما اتبع عقب حوادث سنة ۱۹۱۹ من تشكيل لجان وكل إليها النظر والفصل في طلبات التعويض عن الحوادث المذكورة .
وبتطبيق المبادئ القانونية والدولية المتقدم بيانها على وقائع حوادث ۲۱ فبراير ومارس سنة 1946 يتضح عدم وجود تقصیر من جانب السلطات المصرية, وبالتالي لا يمكن القول بوجود أية مسئولية على الدولة يترتب معها وجود التزام قانونی بالتعويض عن الأضرار التي تكون قد لحقت بالأجانب الموجودين في مصر دون تفرقة بين جنسياتهم ولمن لحقه ضرر أن يلجأ إلى المحاكم المصرية في هذا الصدد إذا شاء , أما أمر صرف منحة فمتروك لتقدير الحكومة على ضوء ما قد تراه من اعتبارات مبناها العطف وروح المساعدة.
ولذلك فإني لا أرى مطلقا ما يبرر اعتبار مطالبة مثل هؤلاء الأفراد المتصفین بالجنسية البريطانية أو بغيرها من الجنسيات محل تحكيم دولي لأنه كما سبق إيضاحه من مبادئ القانون الدولي تعتبر العلاقة بين الدولة وهؤلاء الأفراد محكومة بقواعد القانون الداخلى لا القانون الدولي العام فالجهة التي يحتكمون إليها للمطالبة بتعويض في المحاكم المصرية وحدها, ولا تترتب في مثل هذه الحالات مسئولية دولية تخضع للتحكيم الدولي إلا إذا حصل إنكار للعدالة بعد استيفاء جميع طرق الإجراءات القضائية déni de justice.
على أنه يلاحظ بهذه المناسبة أن دولة رئيس مجلس الوزراء السابق قد أشار في كتابه للسفارة البريطانية في ۲۳ نوفمبر سنة 1946 إلى أنه من المحقق أن ما سيسفر عنه التحقيق القضائي من إتلاف و تخریب ستدفع عنه التعويضات اللازمة لمن حاقت به أضرار , ثم أبدى في بيانه بمجلس النواب عن هذه الحوادث عند مناقشتها أيام ۲۰ و ۲۹ و ۲۷ فبراير سنة 1946 , أما دفع تعويضات عن الخسائر مسألة قلنا أن الأحكام القضائية هي التي تحددها .
أما فيما يتعلق بمطالبة الحكومة البريطانية بالتحكيم في موضوع مقتل رجلی البوليس الحربي البريطاني في حادث 4 مارس سنة 1946 فإن النزاع بين الحكومتين المصرية والبريطانية حول مدى مسئولية الحكومة في هذا الصدد يمكن أن يكون محل تحكيم على اعتبار أنه نزاع بين دولتين وقد أصاب الضرر منه اثنين من رجال الجيش البريطاني , على أنه فيما يبدو أنه قد وقعت تصرفات خاطئة لا مبرر لها من أفراد القوات البريطانية في حادث ميدان الإسماعيلية بالقاهرة في يوم ۲۱ فبراير سنة 1946 كان من نتيجتها قتل واصابة بعض المصريين.
كما ترتب على مثل هذه التصرفات في 4 مارس سنة 1946 بميدان سعد زغلول بالإسكندرية قتل وإصابة البعض الآخر , ومثل هذه التصرفات قد تدعو المطالبة الحكومة البريطانية بتعويض عن تلك الأعمال الخاطئة التي أدت إلى الأضرار السالفة الذكر , وتلك المطالبة أيضاً مما يصح أن يكون محل تحكيم بين الدولتين باعتبار ذلك موجه من الحكومة المصرية قبل الحكومة البريطانية.
ولذلك فإنی أری – والكلام على لسان المستشار محمد على نمازى بك رئيس إدارة الرأى المذكورة – أنه يجب ربط موضوع هاتين المطالبتين معاً فيما إذا رأت الحكومة المصرية قبول اقتراح التحكيم المقدم من الحكومة البريطانية بحيث يتناول المحكمون في هذه الحالة بحث مدى مسئولية الحكومة المصرية عن مقتل اثنين من أفراد القوات البريطانية في 4 مارس سنة 1946 وبحث مدى مسئولية أفراد القوات البريطانية عن مقتل خمسة عشر شخصاً وإصابة أربعة وتسعين من المصريين في حادث ۲۱ فبراير سنة 1946 , ومقتل سبعة وعشرين شخصاً وإصابة أربعمائة من المصريين في حادث 4 مارس سنة 1946.
أما فيما يتعلق بتأليف هيئة التحكيم فيحسن أن تكون من ثلاثة أشخاص تعین كل من الحكومتين واحداً منهم والثالث يتم اختياره باتفاق الحكومتين , فإن لم يتفقا اختاره رئيس محكمة العدل الدولية . فإذا وافقتم دولتكم على ما تقدم لى بيانه فإني أتشرف بأن أرفق مع هذا مشروع الرد الذي يمكن إرساله للسفارة البريطانية في هذا الشأن. وقد انتهى كتاب مستشار الدولة محمد على نمازى بك فى 24 فبراير 1947 .
ويختتم الدكتور محمد خفاجى هكذا يمكننا القول , أن فتوى إدارة الرأى لرئاسة مجلس الوزراء وديوان المحاسبة ووزارتي المالية والتجارة والصناعة بمجلس الدولة التى أعدها المستشار محمد على نمازى بك , فرقت بين حالتين بشأن الأضرار التى تحدث للأجانب المقيمين على الإقليم المصرى بأية صفة ولو كانوا محتلين نتيجة المظاهرات والاضطرابات : الأولى أن العلاقة بين الأجانب المقيمين على الإقليم المصرى يخضعون لقواعد القانون الداخلى لا القانون الدولي العام , ومن ثم فإن الجهة التي يحتكمون إليها للمطالبة بالتعويض هى المحاكم المصرية وحدها, ولا تترتب في مثل هذه الحالات مسئولية دولية تخضع للتحكيم الدولي.والثانية أن يكون النزاع بين الحكومتين المصرية والبريطانية حول مدى مسئولية الحكومة في هذا الصدد يمكن أن يكون محل تحكيم على اعتبار أنه نزاع بين دولتين يخضع لأحكام القانون الدولى العام عن طريق التحكيم الدولى .
وفى ذلك تمييز دقيق بين قواعد التحكيم الدولى وقواعد القانون الدولى العام وسريان القانون الداخلى على كل من يقيم فوق الأراضى المصرية .
كما يدل أيضا على معايشة القاضى الإدارى لحركة تطور القانون ولو على المستوى الدولى حينما تعرض للمذاهب المختلفة في مسئولية الدول عند اجتماعها سنة ۱۹۳۰ بناء على دعوة عصبة الأمم في مؤتمر تجميع قواعد القانون الدولي العام الخاص بمسئولية الدول عما يصيب الأجانب المقيمين على الإقليم من ضرر في أشخاصهم وأملاكهم وأصبح نهجصا دوليًا قرره القاضي الإداري المصرى الأول .
ونعرض غدا للجزء الثالث من تلك الدراسة التوثيقية المتفردة

 

مصدر الخبر | موقع اخبار اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى