الشهادات الصحية والغياب عن المحاكمة بـ”عذر طبى”.. “دليل العذر” إجراء شكلى أصبح كالعرف المتبع.. والمحاكم لها سلطة مطلقة فى تقدير دليل العذر.. والنقض تتصدى للأزمة
في كثير من الأحيان يتخلف المتهم عن حضور الجلسة المحددة لنظر دعواه، فتحكم المحكمة في غيبته ثم يعارض في هذا الحكم، ويثبت أن عدم حضوره كان راجعا لعذر المرض ويقدم تأييدا لذلك شهادة طبية، فما سلطة محكمة الموضوع في تقدير تلك الشهادة؟ خاصة أن على أبواب المحاكم شهادات مرضية على بياض للبيع تحت سمع وبصر الجميع، وهى أحد المستندات التي تعرقل سير العدالة والفصل في القضايا، وهي شهادات مرضية يعتمد عليها المختصون والمعنيون في بعض الأحيان حيث الأصل أن تكون صحيحة ومعتمدة ومطابقة للواقع، وكسب القضايا وسيلته الوحيدة التمسك بالحقيقة والدفاع عنها.
والحقيقة أن الاعتماد على الشهادات المرضية في القضايا ليس سرا ومع ذلك يتم الاعتماد عليها فهي أمام القاضي معتمدة من مستشفيي وهو المكان المختص لاستخراج مثل هذه الشهادات المرضية، أو بمعنى أدق هي “جهة الاختصاص الفنية”، حيث تنتشر الشهادات المرضية على سلالم المحاكم ممهورة بخاتم طبيب ومكتوبة على روشتة دون اسم أو تاريخ، ليستغلها المتقاضون في تأجيل القضايا أو الطعن على الأحكام بعد استنفاد المدة القانونية للطعن، ولا يعتد بها القاضي إلا في طلبات التأجيل أو الطعن على الأحكام فقط.
وفى هذا الشأن – يقول الخبير القانوني والمحامي بالنقض محمد أحمد عبد التواب، إن الأمر يحتاج إلى تدخل سريع للقضاء على هذا الوباء وأهمية محاسبة كل المتعاملين مع هذه الشهادات والبحث بجدية عن مصدرها، وهل هي مسروقة من المستشفيات أم مزورة أصلا وعلى الجهات المعنية أن تتحرك فورا لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة على المجتمع قبل أن تصيب هذه الشهادات المرضية العدالة، حيث أن هناك من يرى أو يعتقد أن الشهادة المرضية أساسيه لقبول الاستئناف شكلا وكذلك المعارضة الاستئناف، لذلك يتم اللجوء إلى مثل هذه الشهادات المرضية “المضروبة”، وذلك لأنه من المفترض قانونا إنه يجب التقرير بالاستئناف في خلال 10 أيام من تاريخ الحكم الصادر في المعارضة.
وبحسب “عبد التواب” في تصريح لـ”برلماني”: يحدث كثيرا أن تقوم وحدة التنفيذ بحصر الأحكام الحضوري بعد مدة قد تصل إلى شهر، ولا سبيل أمام محامى المتهم إلا هذه الشهادة المرضية حتى يتم قبول الاستئناف والمعارضة شكلا رغم أن المتهم ليس مريضا، وردد قائلاَ: “ربما الحل يكمن عند النيابة نفسها عن طريق سرعة حصر الأحكام في مده لا تتجاوز 24 ساعة مع إعلان المتهمين بتلك الإحكام، واللي يجيب شهادة مزوره يبقى يتحبس”، حيث أن هذا الفعل يتم العمل به منذ أكثر من 20 سنة داخل أروقة وقاعات المحاكم باعتباره إجراء شكليا معتمدا من محكمة النقض إذا التفتت عنها محكمة الموضوع وقضت بسقوط الاستئناف للتقرير به بعد الميعاد، وفي حال عدم وجود هذه الشهادة تعنى الكشف عند طبيب بدون مرض يذكر لإعطاء الشهادة وأيضا تكون غير حقيقية بمعنى مزورة.
“دليل العذر” يعد إجراء شكليا أصبح كالعرف المتبع
وفى سياق آخر – تقول المحامية والخبير القانوني رحاب سالم – إنه لا مجال للحديث في هذا الشأن طالما أن قانون الإجراءات الجنائية يستلزم هذا المستند لقبول الاستئناف شكلا، لأنها ستكون من عراقيل عمل المحامي وتحقيق العدالة، حيث إن الحديث في هذا الأمر سيجلب الضرر للمحامين والمتقاضين في الوقت الراهن، كما أن “دليل العذر” يعد إجراء شكليا أصبح كالعرف المتبع، والقاصي والداني يعلمون تماما أنه غير ذي جدوى إلا في فتح مواعيد وإتاحة فرص للمتهم لنظر استئنافه، كما أن أغلب المحامين يتعاملون بدليل العذر أو الشهادة المرضية لإنهاء المصالح، ورددت قائلة: “فلماذا نطلب بإلغائها وهل سيعطونا البديل وهو فتح المواعيد بقانون.. دون شهادات طبية.. ونعلم جيدا بأنهم لن يشرعوا مثل هذا القانون.. فلماذا نغلق الباب علينا وعلى موكلينا في قضايا عادة ما تنتهي فيها الإحكام بالبراءة أو التصالح؟”.
وتضيف “سالم” في تصريحات خاصة: حدود سلطة محكمة الموضوع في اطراح الشهادة الطبية المثبتة لعذر المرض الذي حال بين المتهم وحضور جلسة المعارضة، ورددت قائلة: “واقعة مع أحد المحامين الذي طعن بالتزوير في أحد الشهادات وحضر الطبيب، وقرر أنها صادرة منه صراحة، وبالرغم من ذلك إحالتها النيابة للطب الشرعي وورد التقرير أنها ليس بخط الطبيب والنتيجة حكم المحكمة بحبس المتهم والطبيب ستة أشهر أول درجة وبراءة ثاني درجة والمحامي أصبح منبوذا بين المحامين والقضاء فترة طويلة، حيث إنه بعد الموضوع المذكور طلب القضاة أن يكون دليل العذر مختوما من نقابة الأطباء ومن يومها وختم نقابة الأطباء على أى شهادة حتى تأخذ صفة الجدية”.
محاكم الموضوع أن لها سلطة مطلقة في تقدير دليل العذر
أما عن سلطة محكمة الموضوع في تقدير تلك الشهادة – يُجيب أستاذ القانون الجنائي والمحامي بالنقض ياسر الأمير فاروق – ترى بعض محاكم الموضوع أن لها سلطة مطلقة في تقدير دليل العذر الحائل بين المتهم وبين حضور الجلسة المحددة لنظر المعارضة حتى وأن كان هذا العذر مثبت بشهادة طبية بسند أن من حقها اطراحها طالما أنها لا تطمئن إليها لشكها في كونها مصطنعة غير أن محكمة النقض ترى غير ذلك، إذ لا تتردد في إلغاء الحكم المطرح لدليل العذر لبطلان شاب إجراءات المحاكمة، وقضت تطبيقا لذلك في أحدي الطعون بأنه لا يجوز الحكم فى المعارضة بغير سماع دفاع المعارض إذا كان تخلفه بعذر وإلا كانت إجراءات المحاكمة معيب وأن اهدار المحكمة الشهادة الطبية المثبتة لعذر المرض على مطلق القول بعدم الاطمئنان اليها وأنها مصطنعة يعيب الحكم.
ويضيف “الأمير” في تصريح خاص: قالت محكمة النقض في هذا الطعن أنه من المقرر أنه لا يصح فى القانون الحكم فى المعارضة المرفوعة من المتهم عن الحكم الغيابى الصادر ضده إذا كان تخلفه عن حضور الجلسة التى حددت لنظر معارضته راجعاً إلى عذر قهرى، و كان المرض من الأعذار القهرية ولو لم يقعد الإنسان ما دام يخشى عاقبة الأهمال فيه، وإذ كان الحكم المطعون فيه قد استند فى إطراحه الشهادة الطبية – المقدمة من محامى الطاعن للتدليل على عذره الذى حال دون حضوره جلسة المعارضة – إلى مطلق القول بأنها مصطنعة ولم تطمئن إليها المحكمة دون أن يبين فحواها و دليل المحكمة فيما اعتقدته من اصطناعها حتى يتسنى لمحكمة النقض مراقبة سلامة الأسباب التى من أجلها رفض الحكم التعويل عليها فإنه يكون معيباً بما يوجب نقضه، طبقا للطعن رقم 5663 لسنة 51 قضائية.
رأى محكمة النقض في الأزمة
هذا وقد سبق لمحكمة النقض التصدي لهذه الأزمة في الطعن المقيد برقم 25154 لسنة 88 القضائية، حيث أصدرت الدائرة الجنائية – بمحكمة النقض – حكماَ مهماَ رسخت فيه لعدة مبادئ قضائية بشأن “دليل العذر” المرتبط بالشهاة المرضية، قالت فيه إن: “التقرير بالاستئناف بعد الميعاد بواسطة “وكيل” لا ينال من مرض المتهم الذي منعه من التقرير فى الميعاد القانوني، ولزاماَ على محكمة الموضوع تحقيق الدليل المقدم كعذر قهرى مانع عن التقرير بالاستئناف فى الميعاد المقرر له، وتقضى بنقض حكم طرح دليل العذر المقدم من الطاعن دون تحقيقه تحقيقا تستجلى به حقيقة الأمر، للوقوف على مدى صحة هذا العذر القهرى المانع من التقرير بالاستئناف فى الميعاد”.
الوقائع.. اتهام شخص بحيازة نقد أجنبى جاوزت المسموح به أثناء خروجه من البلاد
اتهمت النيابة العامة الطاعن فى القضية الجنحة رقم 153 لسنة 2015 جنح اقتصادية القاهرة، وذلك لأنه فى يوم 19 من سبتمبر لسنة 2014 بدائرة قسم النزهة – محافظة القاهرة – حمل حال خروجه من البلاد أوراق النقد الأجنبي الذى جاوزت قيمتها العشرة ألاف دولار أمريكى، وطلبت عقابه المواد 116/2، 118، 126/1، 4، 129، 131 من قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى والنقد رقم 88 لسنة 2003 المعدل بالقانون 93 لسنة 2005.
وقضت محكمة جنح القاهرة الاقتصادية غيابيا فى 27 من أبريل لسنة 2015 بتغريم المتهم “أحمد.س”، مبلغ 5 آلاف جنيه ومصادرة المبلغ المضبوط وإلزامه بالمصاريف الجنائية، وعارض وقضى فى معارضته بتاريخ 16 من نوفمبر لسنة 2015 بقبول المعارضة شكلاَ وفى الموضوع برفضه وتأييد الحكم المعارض فيه والمصاريف، واستأنف المحكوم عليه وقيد استئنافه برقم 308 لسنة 2016 جنح مستأنف اقتصادية القاهرة، ومحكمة استئناف القاهرة – قضت حضورياَ بتاريخ 6 من سبتمبر لسنة 2016 بعدم قبول الاستئناف شكلاَ للتقرير به بعد الميعاد المقرر قانون، فقرر المحكوم عليه بوكيل عنه بالطعن فى هذا الحكم بطريق النقض.
محكمة أول درجة تقضى بالتغريم والمصادرة.. والمتهم يطعن
المحكمة في حيثيات الحكم قالت إن مما ينعاه الطاعن على الحكم المطعون فيه أنه إذ قضى بعدم قبول الاستئناف شكلاَ للتقرير به بعد الميعاد قد شابه القصور في التسبيب والخطأ في تطبيق القانون وانطوى على الإخلال بحق الدفاع، ذلك أن مانعا قهريا وهو المرض حال بين الطاعن وبين التقرير بالاستئناف في الميعاد وهو ما ابداه المدافع عنه بجلسة المحاكمة وقدم شهادة مرضية تفيد ذلك بيد أن الحكم أطرح هذا الدفاع بما لا يسوغ، مما يعيبه بما يستوجب نقضه.
المتهم يقدم عذرا مرضيا بعدم حضوره جلسات محكمة أول درجة
ووفقا لـ”المحكمة” – تبين من الحكم المطعون فيه أن الطاعن تقدم بشهادة مرضية تدل على أنه كان مريضاَ بالتهاب الفقرات القطنية العمود الفقري، أدى إلى ملازمته الفراش في المدة من 6 نوفمبر 2015 حتى 6 أبريل 2016 غير أن المحكمة لم تعترف هذه الشهادة بما مفاده أنها لا تطمئن إلى ذلك الدليل ولا تأخذ به سيما وأن المتهم استأنف حكم أول درجة بوكيل، وكان أولى به أن يقوم بذلك الإجراء فى ميعاد الاستئناف، وحيث إن الشهادة المرضية وإن كانت لا تخرج عن كونها دليلاَ من أدلة الدعوى تخضع لتقدير محكمة الموضوع كسائر الأدلة، إلا أن المحكمة متى أبدت الأسباب إلى من أجلها رفضت التعويل على تلك الشهادة، فإن لمحكمة النقض أن تراقب ما إذا كان من شأن هذه الأسباب أن تؤدى إلى النتيجة التى رتبها الحكم.
والمحكمة تقضى بنقض حكم تجاوز دليل العذر دون تحقيقه
ولما كانت المحكمة لم تعرض لفحوى الشهادة دون أن تورد أسباباَ تنال منها أو تهدر حجيتها حتى يتسنى لمحكمة النقض مراقبة صلاحيتها لترتيب النتيجة التي خلصت إليها ودون أن تمحص التوكيل الذى تم التقرير بالاستئناف بموجبه للوقوف على إجراءات وتاريخ تحريره وعما إذا كان في فترة ادعائه المرض من عدمه، ذلك أن التقرير بالاستئناف بواسطة وكيل هو حق خوله القانون للطاعن، فلا يسمح أن يؤخذ حجة عليه إذا رأى عدم استعماله التقرير بالاستئناف بشخصه، وكانت المحكمة إذ لم تأخذ بالشهادة الطبية بناء على أن وكيله كان يجب عليه التقرير بالاستئناف في الميعاد، فإن الحكم المطعون فيه يكون معيبا بالقصور بما يوجب نقضه والإعادة دون حاجة لبحث باقي أوجه الطعن.