المقالات القانونية

المستشار الدكتور إسلام احسان | يكتب لقاضي أون لاين عن العوار الدستورى فى مواد قانون الخدمة المدنية

تنص المادة (197) من الدستور على أن ” النيابة الإدارية هيئة قضائية مستقلة، تتولى التحقيق في المخالفات الإدارية والمالية. وكذا التي تحال إليها ويكون لها بالنسبة لهذه المخالفات السلطات المقررة لجهة الإدارة في توقيع الجزاءات التأديبية. ويكون الطعن في قراراتها أمام المحكمة التأديبية المختصة بمجلس الدولة، كما تتولى تحريك ومباشرة الدعاوى والطعون التأديبية أمام محاكم مجلس الدولة. وذلك كله وفقاً لما ينظمه القانون. ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى، ويكون لأعضائها كافة الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية، وينظم القانون مساءلتهم تأديبياً “.

وبذلك يكون المشرع الدستوري قد أفصح عن وجوب إصدار القرارات التأديبية بالنسبة للموظفين العموميين من النيابة الإدارية وليس من جهة الإدارة، وذلك في المخالفات التأديبية المحالة إلى النيابة الإدارية.. على أن يتم تنظيم ذلك بموجب قانون.

هنا يثور التساؤل عن مدى وقوع المشرع العادي في مخالفة الدستور في أحكام الباب السابع من قانون الخدمة المدنية:

من المستقر عليه أن کل مخالفة للدستور سواء كانت عمداً أو بدونه أو عن إهمال يتعين منعها، فالدستور يكفل الحماية لكل حق أو حرية اعترف بها من جوانبها النظرية والعملية. وهذه الكفالة هي الضمانة الوحيدة للحقوق والحريات وتنظيم عمل السلطات العامة. مما يتعين معه إنفاذ هذه الحقوق والحريات العامة بالطريقة التي تضمن الانتفاع بها كما تصورها الدستور.

لذلك استقرت محكمتي النقض والدستورية العليا على أن الإغفال التشريعي (النسبي) من المشرع في معالجة موضوع معين خلافاً للدستور. يشكل مخالفة دستورية تعيب القانون وتوصمه بعدم الدستورية. فإذا رأت المحكمة أن المشرع في نص القانون لم يحيط بالموضوع على نحو ما اوجبه الدستور بوضعه نص منقوص فأن عليها أن تحيل النص القانوني إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريته..

فعدم دستورية النص لا تتأتى من مخالفة صريحة للقواعد الشكلية والموضوعية للدستور. وإنما تتأتى عن إغفال المشرع أو وقوع قصور منه في تنظيم الحق أو الحرية أو المسألة محل التنظيم التشريعي. فما أغفله المشرع هو الذي جعل النص مشوب بعدم الدستورية.

وحيث أن الأصل في الرقابة على دستورية القوانين هي رقابة قانونية وليست رقابة ملائمة إلا أن تدخل القاضي الدستوري لرقابة ما لم يذكره المشرع – أو ما أغفله المشرع – ليس من شأنها المساس بنطاق السلطة التقديرية للمشرع، إنما لضمان إحاطة المشرع للموضوع الذي قرره الدستور بتنظيم واف غير منقوص.

و من أشهر التطبيقات القضائية لتصدى القضاء للإغفال التشريعي النسبي في قضاء محكمة النقض إحالة المحكمة  المادة (75) من القانون رقم 90 لسنة1944 الخاص بالرسوم القضائية ورسوم التوثيق في المواد المدنية إلى المحكمة الدستورية العليا لما ارتأته من إنه شابها إغفال نسبي تشريعي ، و قد قضت المحكمة الدستورية العليا في الدعوى رقم  308 لسنة24 ق. دستورية جلسة ١١يونيو ٢٠٠٦ بعدم الدستورية تلك المادة لما شابها  من عوار دستوري للإغفال التشريعي النسبي … و كذلك  قانون رقم 118 لسنة 2013 في شأن الجمعيات التعاونية، حيث أغفل المشرِّع عن ضمانات عضوية مجالس الإدارة .

ولما كان ذلك، وكان دستور ٢٠١٤ قد نص في المادة ١٩٧ على أن تتولى النيابة الإدارية توقيع الجزاءات التأديبية في المخالفات المالية والإدارية التي تحال إليها وذلك على الوجه الذي ينظمه القانون … وقد صدر قانون الخدمة المدنية رقم ٨١ لسنة ٢٠١٦ ونص في المادة ٦٠ على أن ” تختص النيابة الإدارية دون غيرها بالتحقيق مع شاغلي الوظائف القيادية، وكذا تختص دون غيرها بالتحقيق في المخالفات المالية التي يترتب عليها ضياع حق من الحقوق المالية للدولة أو المساس بها. كما تتولى التحقيق في المخالفات الأخرى التي تحال إليها ويكون لها بالنسبة لهذه المخالفات السلطات المقررة للسلطة المختصة في توقيع الجزاءات أو الحفظ.

وعلى الجهة الإدارية المختصة بالنسبة لسائر المخالفات أن توقف ما تجريه من تحقيق في واقعة ما أو وقائع وما يرتبط بها إذا كانت النيابة الإدارية قد بدأت التحقيق فيها، ويقع باطلاً كل إجراء أو تصرف يخالف ذلك “.

وهكذا يكون المشرع قد نص في المادة ٦٠ على أن ” كما تتولى التحقيق في المخالفات الأخرى التي تحال إليها ويكون لها بالنسبة لهذه المخالفات السلطات المقررة للسلطة المختصة في توقيع الجزاءات أو الحفظ “.. بما يكون معه القانون المأمول صدوره لتنفيذ الالزام الدستوري الوارد بالمادة ١٩٧ قد صدر وواجب النفاذ … وأضحى من تاريخ نفاذ قانون الخدمة المدنية لا يجوز لجهة الإدارة أن توقع الجزاءات في المخالفات التي احيلت إلى النيابة الإدارية باعتبار أن النيابة وحدها دون غيرها هي المختصة دستورياً بتوقيع الجزاءات في تلك المخالفات.

 

لكن المحكمة الإدارية العليا عندما  طعن امامها على قرارات الجزاء الصادرة من النيابة الإدارية بعد صدور قانون الخدمة المدنية قضت في الطعن رقم ١٧٩٨ لسنة ٣٤ ق ,  ٥٨٩٣ لسنة ٦٣ ق جلسة ٢١ /٤/ ٢٠١٨  ببطلانها استنادا إلى أن مباشرة النيابة الإدارية ذلك الاختصاص مازال موقوفاً لعدم صدور القانون المنظم لمباشرة ذلك الاختصاص إذ أن المشرع الدستوري جعل إنفاذ سلطة النيابة الإدارية  في توقيع الجزاءات التأديبية  رهيناً بصدور قانون ينظم هذا الأمر ، و مؤدى هذا و لازمه إنه لا يسوغ تطبيق الأحكام محل المادة ( ١٩٧ ) المشار إليها إلا بعد استجابة المشرع ، و تدخله بإفراغ ما تضمنه النص الدستوري  في نص تشريعي محدد و منضبط أي نقله إلى مجال العمل و التنفيذ بحيث يلتزم الجميع بمقتضاه من التاريخ الذي تحدده السلطة التشريعية لنفاذ احكامه ، على أن يتضمن هذا التشريع تحديد من يملك توقيع الجزاءات التأديبية من أعضاء النيابة الإدارية و كذا تحديد الجزاءات التأديبية و انواعها و حدودها الدنيا و القصوى في كل حالة على حدة ، بحيث يتم اقرار نظام قانوني متكامل لتوقيع النيابة الإدارية الجزاءات التأديبية ، و إلى أن يصدر هذا التشريع يتعين على النيابة الإدارية الإلتزام بما حددته التشريعات المعمول بها

مؤدى ذلك أن قضاء مجلس الدولة خلص إلى أن مواد الباب السابع المواد ٥٧ – ٦٨ من قانون الخدمة المدنية وبالأخص المادتين ٦٠، ٦٢ لم تشتملا على ما استلزمه الدستور في المادة ١٩٧.. وإنما شابهما القصور التشريعي والاغفال النسبي.. ومن ثم كان احالة هاتين المادتين الى المحكمة الدستورية العليا اجراء يتفق ومنهج القضاء المصري في تلك الاحوال..  ويعد النكول عنه امر غير مألوف قضائيا..  بعدم تطبيق المادة ٦٠ وعدم إحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا رغم كشف اوجه الاغفال التشريعي بها حسبما إبان الحكم في عبارات جلية من ” اغفال تحديد من يملك توقيع الجزاءات التأديبية من أعضاء النيابة الإدارية وكذا اغفال تحديد الجزاءات التأديبية وانواعها وحدودها الدنيا والقصوى في كل حالة على حدة “.

ولا شك ان الاغفال النسبي من المشرع لتنظيم الاختصاص بإصدار قرارات الجزاء من النيابة الإدارية في المخالفات التأديبية التي تحال اليها وذلك بالمخالفة لحكم الدستور رغم صدوره منذ ما يقارب الثماني سنوات.. هو مسلك سلبي من المشرع بتعطيل ارادة المشرع الدستوري الاعلى والأسمى.. وذلك العزوف من المشرع يعتبر عيب دستوري يوصمه بالبطلان وعدم الدستورية، لان المشرع افرد باب للتحقيق والتأديب مع الموظفين العمومين في قانون الخدمة المدنية رقم ٨١ لسنة ٢٠١٦ وتجاهل عمدا المادة ١٩٧ من الدستور.. ونرى انه كان على القضاء دور في احالة المواد المشار اليها الى المحكمة الدستورية العليا لما شابها من عوار دستوري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى