المقالات القانونية

“المعاش المبكر واختلاف الفلسفة التشريعية بين قانوني الخدمة المدنية والتأمينات الاجتماعية والمعاشات”بقلم الدكتور محمد عبد النبي

التشريعات متنوعة ومتعددة، وتتعلق بالمصالح العامة في الدولة، إذ لا يمكن أن يعالج تشريع واحد كافة شئون الدولة، بل يلزم تشريع لكل موضوع، ومن ثم تنوعت التشريعات وتعددت، وهذا ما أوردته المحكمة الدستورية العليا: “كل تنظيم تشريعي لا يعتبر مقصودا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها، تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من وراء هذا التنظيم”. (يراجع حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 70 لسنة 43 قضائية دستورية جلسة 2/9/2023).
وليس مفاد إفراد المشرع كل موضوع بقانون معين أن تنفك الأهداف عن بعضها البعض، بل تتكامل فيما بينها، ومن ثم يجب ألا تتضارب غايات التشريعات مع بعضها البعض، إذ لو تصادمت في فلسفتها واختلفت؛ لأدى ذلك الأمر لنتائج غير مرغوبة في المجتمع، ونشأت حالة من الفوضى؛ لذا من الضرورة أن تكون التشريعات مكملة لبعضها البعض في مضمونها وأهدافها وفلسفتها.


وحيث ينظم قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 حالات إنهاء الخدمة لموظفي الدولة، ومنها طلب الإحالة للمعاش المبكر وشجّع عليه، وذلك تخفيفاً للعبء الواقع على كاهل الموازنة العامة عن طريق تقليص حجم الجهاز الإداري إلى الحد الذي يناسب احتياجات الدولة، بينما جاء قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات (واللاحق) رقم 148 لسنة 2019 وقنن حالات استحقاق المعاش، ومن بينها تنظيم المعاش المبكر، لكنه جاء بفلسفة مغايرة لما ورد بقانون الخدمة المدنية، إذ جاء خصيصًا للحد منه، عن طريق وضع ضوابط جديدة لاستحقاق المعاش المبكر، حتى لا يكون مدعاة للمؤمن عليه للخروج من سوق العمل مبكرًا، ولضمان الاستدامة المالية للنظام التأميني؛ وأدى اختلاف الفلسفة التشريعية والأحكام القانونية الواردة في قانوني الخدمة المدنية والتأمينات الاجتماعية إلى نتائج تطبيقية مغايرة لكل قانون عن الآخر, ومن المنطلق السابق جاءت أهمية ذلك البحث لتسلط الضوء على الحلول المناسبة وتقديمها، تحقيقا للأهداف الدستورية من اتفاق التشريعات، وتنفيذا لغايتها المنشودة والتي وضعت من أجلها. (محمد عبدالنبي عبداللاه. التطور التاريخي لتشريعات حماية العمال في مصر. رسالة دكتوراه كلية الحقوق جامعة بنها. 2022. ص199).


أوجه التناقض:

تضمنت المادة (20) من قانون الخدمة المدنية وذلك لشاغلي الوظائف القيادة العليا أو الإدارة الإشرافية، وكذلك المادة (70) لمن بلغ سن الخمسين بوجه عام، وذلك بتشجيع الموظفين على الإحالة للمعاش المبكر، حيث أجاز للموظف الذي تجاوز سن الخمسين أن يطلب إحالته للمعاش المبكر، وأوجب على الجهة الإدارية الاستجابة لطلبه، وتشجيعًا له على ذلك، أوجب ترقيته للدرجة التالية، وحتى لا تتأثر حقوقه التأمينية المعاشية، يتم تسوية تلك المستحقات بعد ترقيته على أساس مدة اشتراكه في نظام التأمين، مضافًا إليها خمس سنوات افتراضية، تتحملها الخزانة العامة. وهذا ما أوردته الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة: “أن المشرع أعاد تنظيم المعاش المبكر بموجب المادة (70) من قانون الخدمة المدنية، … وكان رائد المشرع في تقريره هذا النظام برمته هو تخفيف العبء عن كاهل الموازنة العامة بتقليص حجم الجهاز الإداري إلى الحد الذي يناسب احتياجات الدولة الحقيقية”. (فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة رقم 1698 لسنة 2023 بتاريخ 12/12/2023 جلسة 22/11/2023 ملف رقم 86/2/407).


وحيث انتشرت ظاهرة المعاش المبكر بكثرة مما أضر بأموال الهيئة التأمينية، حيث إن هناك العديد من المؤمن عليهم عند اكمال مدة استحقاق المعاش وهي عشرون سنة يتقدموا بطلب الإحالة للمعاش المبكر، وتستجيب جهات عملهم لتلك الطلبات، بينما تلتزم الهيئة التأمينية بتسوية حقوقهم التأمينية ومعاشهم، ومن ثم صرف المعاشات الشهرية لهم والتي تخضع للزيادة الدورية، قبل الاستحقاق المخطط له، ومن ثم تأثر الصناديق المالية لهيئة التأمينات والتي يتم إدارتها وفق معامل اكتواري معين، يضمن لها الاستثمار الآمن لتلك الأموال بشكل كامل. وعليه، أقر المشرع القانون رقم (148) لسنة 2019 بشأن التأمينات الاجتماعية والمعاشات، واستحدث تقنينا جديدًا في المادة (21) بند (6) لمواجهة مشكلة تزايد أصحاب المعاش المبكر. وهذا ما أوردته المذكرة الايضاحية لذلك القانون هي أن مشروع القانون وضع ضوابط جديدة لاستحقاق المعاش المبكر، حتى لا يكون مدعاة للمؤمن عليه للخروج من سوق العمل مبكرًا، ولضمان الاستدامة المالية للنظام التأميني.
تبين مما سبق أن قانون الخدمة المدنية رقم (81) لسنة 2016 منح الموظف حرية التقدم بطلب الحصول على معاش مبكر ـ تحقيقا لفلسفته نحو تخفيض عدد الموظفين ـ وذلك بتوافر الشروط المقننة بالمواد (20 أو 70) حسب الأحوال، وأوجب على الجهة الإدارية الاستجابة لطلبه دون أي سلطة تقديرية منها، وبعد ذلك ـ يُفترض ـ تسوية حقوقه التأمينية والمعاشية على النحو المقرر واستثناء من أي قواعد تنظيمية أخرى لاستحقاق المعاش. وتبين أيضًا من أحكام المادة (21بند 6) من قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم (148) لسنة 2019 والتي تنظم شروط استحقاق المعاش المبكر، اشتراط توافر مدة اشتراك في التأمين تعطي الحق في معاش لا تقل قيمته عن (50%) من أجر أو دخل التسوية الأخير، ولا يقل عن الحد الأدنى للمعاش (والذي يزيد باستمرار سنويًا). ويتضح بشكل لا لبث فيه اختلاف فلسفة قانون الخدمة المدنية رقم (81) لسنة 2016 عن فلسفة قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم (148) لسنة 2019، إذ يهدف الأول والأسبق إقرارًا إلى تخفيض عدد الموظفين بالجهاز الإداري للدولة، ومن ثم تشجيعهم على الإحالة للمعاش للمبكر، لأن موازنة الدولة أصبحت لا تحتمل صرف الرواتب بذلك العدد، بينما يهدف الثاني واللاحق إقرارًا إلى عكس ذلك، إذ يهدف إلى الحيلولة دون حصول المؤمن عليه على المعاش المبكر، حتى لا يكون ذلك مدعاة للخروج المبكر من سوق العمل، ولضمان الاستدامة المالية للنظام التأميني.


الإشكاليات الناتجة:

تثور إشكالية كيفية معرفة المؤمن عليه الذي تقدم بطلب الإحالة للمعاش المبكر عن مدى انطباق وتوافر شروط استحقاق المعاش المبكر بشأنه من عدمه، ومن ثم يصبح وجود عائق أمام المؤمن عليه راغب الإحالة للمعاش المبكر وهو أن لا يمكن الوقوف على تلك الإجابة، حيث يصعب عليه ذلك. فضلاً عن أنه عند تقديم الموظف المؤمن عليه طلب لجهة عمله للموافقة على الإحالة للمعاش المبكر تلتزم الأخيرة بالموافقة طلبه إلزاميًا، وهنا تنقطع علاقته بجهة عمله، ومن ثم ينقطع دخله وراتبه، ثم يتقدم للهيئة التأمينية للحصول على المعاش، وبفحص شروط استحقاق المعاش المبكر يتبين عدم استحقاقه، لعدم توافر الشروط المقررة، ومن ثم عدم استحقاقه للمعاش، ويغدو محرومًا من الراتب والمعاش معًا، وهنا انقطع مصدر معيشته هو وأسرته، ويتعرضوا لخطر انعدام مورد الدخل، وذلك يتنافى مع فلسفة القوانين الاجتماعية التي تهدف إلى توفير مصدر الدخل عند تحقق أحد المخاطر محل التأمين.


الحلول المقترحة:

1)تقنين حكم في قانون الخدمة المدنية بإعادة العامل للعمل، وذلك لعدم توافر شروط استحقاق المعاش المبكر، وذلك لعدم تحقق الغاية التي من أجلها قدم الموظف طلبه بالإحالة للمعاش المبكر وهي حصولها على المعاش. وهذا ما أيدته الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، عندما عُرض عليها بعض حالات الموظفين من جهات مختلفة الذين تقدموا بطلبات إحالتهم للمعاش المبكر، وتمت الموافقة على طلباتهم وإنهاء خدمتهم، لكنهم لم يستحقوا معاشات، لعدم توافر الشروط المقررة في قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات، ثم تقدموا لجهات عملهم بطلبات عودتهم للعمل، حيث انتهت الجمعية العمومية الآتي: “ولقد كان واضحًا أن دافع المعروضة حالاتهم وسبب تقدمهم بطلب الإحالة للمعاش المبكر هو توافر شروط استحقاقهم المعاش وانتفاء ما يحول دون تسويته، وكان أساس هذا الدافع توهمًا كاذبًا واعتقادًا خاطئاً أدى إلى فساد رضائهم عند الطلب، وكان ذلك في مسألة يشق فهمها على المتخصصين، وتحتاج إلى دراية خاصة بأحكام القانون، وهو أمر ينأى بطبيعته عن سلوك الشخص المعتاد حسن النية، فلا تكليف بغير استطاعة وفقًا لما جرى به إفتاء الجمعية العمومية، فلولا اعتقاد المعروضة حالاتهم توافر شروط حصولهم على المعاش لَما تقدموا بهذا الطلب، بما يعيب إراداتهم وينال من صحتها، ويُفضي إلى افتقار القرارات التي أجابت هذه الطلبات إلى مُرادها إلى صحيح أسبابها، ولما كانت هذه القرارات قد صدرت عن سلطة مقيدة ولم ترتب حقوقًا مكتسبة يُمتَنع المساس بها، وصدرت مشوبة بمخالفة القانون لتعيب سببها القائمة عليه، فإن لمُصدرها أن يقوم بسحبها دون التقيد بميعاد الستين يومًا”. (فتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة رقم 1698 لسنة 2023 بتاريخ 12/12/2023 جلسة 22/11/2023 ملف رقم 86/2/407). وقد صدر تعميم من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة تحت رقم الموضوع 1087439 بتاريخ 9/7/2024 بشأن العدول عن المعاش المبكر.
2)المعاش المبكر هو وجه من أوجه استحقاق المعاش، ولا تفرقة بين من أحيل للمعاش المبكر وبين غيره من أحيل للمعاش لأي سبب أخر؛ ولذلك قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قواعد تسوية من انتهت خدمتهم بنظام المعاش المبكر وفقا لقانون التأمين الاجتماعي المُلغى رقم (79) لسنة 1975، إذ شيدت المحكمة قضائها على سند من أن النص المطعون فيه فيما قضى به من تسوية معاش من انتهت خدمتهم بالاستقالة (المعاش المبكر) بواقع جزء واحد من المعامل المناظر لسن المؤمن عليه المحدد بالجدول المشار إليه، بينما يسوى معاش من انتهت خدمتهم لغير سبب الاستقالة بواقع جزء واحد من 45 جزءًا من الأجر المنصوص عليه في المادة (19) من القانون ذاته، فإنه يكون قد أعاق النظام التأميني القائم على أساس المزايا المحددة عن تحقيق غايته في كفالة الدولة لخدمات التأمين الاجتماعي، وأقام تمييزًا غير مبرر بين أصحاب المعاش المبكر ومن عداهم من الفئات، رغم وحدة مراكزهم القانونية تجاه الخطر المؤمن منه”. (يراجع حكم المحكمة الدستورية العليا. الدعوى رقم (188) لسنة 35 قضائية دستورية. جلسة 8 يونيه 2023).


وحيث جاءت الجمعية العمومية بقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة لتعيد مناشدة المشرع بما سبق، حيث أوردت: “ولا يفوت الجمعية العمومية أن تشير إلى أنه لما كان استحقاق المُعاملين بنظام المعاش المبكر معاشهم– وفق المادة (70) من قانون الخدمة المدنية- لم يتطلب ما اشترطه قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الصادر بالقانون رقم (148) لسنة 2019 من توافر مُدد الاشتراك التي تعطي الحق في معاش لا يقل عن الحد الأدنى المقرر بقانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات وهو ما قد يصعب تحققه في كثير من الحالات، فتكون فعالية وجدوى نظام المعاش المبكر على المحكّ، وهو أمر محل نظر لسببين، أولاهما: مخالفته توجه المشرع في قوانين التأمين الاجتماعي من عدم الانتقاص من المزايا والحقوق التأمينية والمعاشية المكتسبة وفقًا لتشريعات سابقة، تحقيقًا لرغبته في تحسين مستوى المعيشة لأصحاب المعاشات ومساعدتهم على تحمل تكاليف الحياة. وثانيهما: أن مقتضى ما تقدم أن يوقف عمليًّا تسوية المعاش في حالات المعاش المبكر، دون إلغاء هذا النظام أو تعديله بما لا يضمن تحقيق الغرض منه، فضلا عن بقاء الحظر المقرر على أرباب تلك الفئة من الرجوع إلى العمل تحت أي مُسمي بأي جهة من الجهات الداخلة في الموازنة العامة للدولة، فاجتمع عليهم ضرران، حيث توقفت تسوية معاشاتهم، وكذلك منعوا من العودة إلى شغل وظائفهم بأي سبيل كان. مما تُناشد معه الجمعية العمومية المشرع سرعة التدخل للمحافظة على بقاء وفعالية نظام الإحالة للمعاش المبكر لضمان تحقيقه الغايات والأهداف المرجوة منه”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى