دراسة: الإنبعاثات التراكمية لتغير المناخ فى أوروبا «مخيفة» وتتحملها «إفريقيا وآسيا»
دراسة: الإنبعاثات التراكمية لتغير المناخ فى أوروبا «مخيفة» وتتحملها «إفريقيا وآسيا»
نواصل عرض دراسة متميزة للمفكر والمؤرخ القضائى المصرى المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة المصرى بعنوان ” العدالة المناخية تشرق على البشرية من أرض الحضارة والتاريخ دراسة عالمية حديثة لمنازعات تغير المناخ” وهو الموضوع الذى يحتل مكان الصدارة لدى الدول الكبرى والنامية على السواء والمنظمات الدولية لصالح البشرية , باعتبار أن تغير المناخ يأتى على رأس التحديات التي تواجه العالم فى العصر الحالى والمشكلة الأكبر عالمياً ، وتأتى الدراسة لرفع مستوى الوعي العام بمفهوم العدالة المناخية, ودور مصر الجوهرى فى هذا المجال.وتلافى استغلال العناصر العدائية لأزمة باتت دولية .
وسوف نعرض فى الجزء الرابع من تلك الدراسة المهمة للنقاط التالية .
أولاً : الإنبعاثات التراكمية لتغير المناخ فى قارة أوروبا مخيفة وتتحملها ظلماً قارتى إفريقيا وآسيا :
يقول الدكتور محمد خفاجى إن تغير المناخ يورث الظلم , ذلك أن الدول التي تعاني أكثر من غيرها من آثار تغير المناخ ليست هى تلك التي ساهمت بأكبر قدر في نشأة هذه الظاهرة , فيضار كل بلد الأكثر فقراً وتهميشاً ،وفضلاً عن ذلك تخاطر الأجيال القادمة بالعيش في ظروف مناخية وبيئية أسوأ بكثير من ظروف الأجيال السابقة عليها , وهذا هو جوهر معالجة العدالة المناخية , ومن ثم فإن مفهوم “العدالة المناخية” يشمل جوانب مختلفة ، العدالة فى التوزيع والعدالة بين الأجيال , وبيان ذلك أنه نظرًا لأن المناخ هو منفعة عامة عالمية ، فإن الآثار الضارة الناجمة عن زيادة الانبعاثات تقع على جميع البلدان وجميع الشعوب بلا استثناء ، بغض النظر عن الدول المسئولة الأصلية عن وقوعها , وبعبارة أخرى أكثر تعمقاً فإن التغير المناخي وإن كان سيؤثر على جميع البلدان ، إلا أنه يؤثر بصورة أكبر من حيث المخاطر الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمؤسسية على الدول النامية الأكثر فقراً ومعظمها يقع فى إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا , وأمريكا الوسطى والجنوبية والدول النامية الجزرية الصغيرة .
والواقع بيانات الانبعاثات التراكمية منذ الثورة الصناعية فى قارة أوروبا مخيفة – حسبما أعلنها علماء المناخ – فالولايات المتحدة الأمريكية مسئولة عن 25٪ من الانبعاثات ، والدول الـ 27 التي تشكل حاليًا الاتحاد الأوروبي بنسبة 22٪ ، والصين بنسبة 12.7٪ ، وروسيا 6٪ , والهند 3٪ , وترسم أرقام الانبعاثات الحاصلة عام 2022 صورة مختلفة ، حيث تشكل الصين أكبر مصدر للانبعاثات بحوالي 28٪ في المرتبة الثانية الولايات المتحدة بنسبة 14٪ ، تليها الهند بنسبة 6٪ إلى 8٪ , وبالطبع لا يوجد في هذا الترتيب أي أثر لأكثر البلدان ضعفاً ، والتي ساهمت بشكل هامشي في المشكلة سواء من الناحية التاريخية أو من حيث الانبعاثات الحالية, والحقيقة المخجلة لقارة أوروبا أن القارة الأفريقية بأكملها مسئولة عن 3٪ فقط من الانبعاثات التراكمية على مستوى كوكب الأرض .
ويمكن القول أن هذا التناقض والتعارض الصارخ بين تلك البلاد التى ينبعثون أكثر من غيرهم وأولئك الذين يعانون أكثر من غيرهم من عواقب تلك الانبعاثات هو أصل المشكلة للعدالة المناخية وقواعد الإنصاف ، وهو ما ينعكس أثره في مفاوضات المناخ الدولية التى يسجلها التاريخ , وفى نطاق المفاوضات الدولية ، يتمثل الموقف التقليدي للعديد من الدول النامية في أنها لا تريد أن تخضع لنفس أهداف خفض الانبعاثات المطبقة على الدول المتقدمة الكبرى , لسبب بسيط لأن ذلك من شأنه أن يعرقل مسار تنميتها وهو ما يشكل ظلمًا مناخياً مقارنة بتلك الدول الصناعية الكبرى .
وغنى عن البيان القول بأن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ(UNFCCC) والاتفاقيات المناخية اللاحقة – بروتوكول كيوتو واتفاقية باريس – توصلت إلى صيغ وحلول وسط مختلفة تتعلق بتوزيع الجهود بين الأطرافتأسيساً على مبدأ المسئوليات المشتركة ولكن بصورة متباينة، ومؤداه أن حماية المناخ هدف مشترك للمجتمع الدولي بأكمله ، ولكن هناك التفريق في الأعباء على الدول في ضوء المدى الذي ساهمت فيه في تدهور المناخ.
على أن مبدأ المسئولية المشتركة عن تغير المناخ خضع لعملية تطور ، لا سيما في الانتقال من بروتوكول كيوتو عام 1997 إلى اتفاق باريس عام 2015, ففى ظل بروتوكول كيوتو كان يتضمن تمييزاً واضحاً فى الالتزامات بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية ، خاصة فيما يتعلق بخفض الانبعاثات ، أما فى ظل اتفاق باريس فإنه تضمن إلغاء ما يسمى بالتشعب أو جدار الحماية بين مجموعتي الدول من خلال وضع قواعد وأحكام مشتركة بين جميع الأطراف , ورغم كل ذلك فإن الواقع العملى على مسرح الحياة الدولية كشف النقاب عن أن الدول المتقدمة ما زالت مثقلة بأعباء أكثر شدة تنال من التزامها بتقديم المساعدات التكنولوجية والمالية إلى الدول النامية .
على أن البعد المكاني ليس هو الوحيد الذي يتأثر بالعدالة المناخية وإنما هناك أيضًا بُعداً زمنياً لا يجوز تغافله , وبيان ذلك أن آثار تغير المناخ وما تبثه منانبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحرارى تمس الأجيال اللاحقة عن سلوكيات الأجيال السابقة ، ومن هنا تبرز أهمية البعد الأخر للعدالة المناخية وهو ما يتعلق بالتقاضي المناخى , ونظرا لطبيعة الانبعاثات تطور التقاضي المناخي بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض بلدان أوروبا خاصةأستراليا منذ أواخر الثمانينيات , ثم انتشر هذا النوع من التقاضي إلى معظم دول قارة أوروبا على مدار العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، ثم انتشر فى معظم بلدان العالم فى مختلف القارات .
على أن الجزء الأكبر من منازعات المناخ يتركز في الولايات المتحدة الأمريكية –حسبما ورد فى قاعدة البيانات لمركز “سابين” لقانون تغير المناخ بجامعة كولومبيا عام 2021 – كما يتركز نصيب الأسد فى دول أوروبا خاصة الدول المتقدمة والصناعية الكبرى بلا استثناء وقليل من قارات اَسيا وإفريقيا , على أن معظم منازعات المناخ تتعلق ببعض الإخفاقات المناخية من قبل الدول ذاتها أو الشركات متعددة الجنسيات أو شركات الوقود الأحفوري أو شركات الكربون الكبرى ، المسئولة عن أكثر من 60٪ من انبعاثات الغازات ، وتأثيرات الاحتباس الحراري المنبعثة حتى الآن في الغلاف الجوي.
ثانياً : دول العالم مطالبة بالحفاظ على الاحترار العالمي أقل من 1.5 درجة مئوية:
ويذكر د محمد خفاجى لقد بات العالم اليوم مطالباً بتعزيز الالتزامات بالحفاظ على الاحترار العالمي أقل من 1.5 درجة مئوية , وهذا يتطلب التخلص التدريجي السريع من إنتاج الفحم والنفط والغاز من أجل تقليل انبعاثات الكربون , والمشكلة التى تثور على بساط البحث هى كيفية ضمان أن يتم ذلك بطريقة عادلة للبشرية , وقد أعلنت البلدان عن الإلغاء التدريجي لتوليد الكهرباء باستخدام الفحم ، وإنهاء التمويل العام الدولي لجميع أنواع الوقود الأحفوري بقيمة حوالي 18 مليار دولار سنويًا ، وتسريع الإلغاء التدريجي لدعم الوقود الأحفورى , لذا يتعين الالتزام بضمان تعويض البلدان النامية عن الخسائر والأضرار التي يعانون منها بالفعل نتيجة لتغير المناخ ودعم الدول الفقيرةلمعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية الواسعة للانتقال السريع إلى الطاقات المتجددة .
ثالثاً : العلماء ينادون بثلاثة إجراءات رئيسية بشأن تغير المناخ :
ويضيف د محمد خفاجى أن العلماء ينادون بثلاثة إجراءات رئيسية يجب اتخاذها لضمان انتقال عادل للطاقة : 1- تنظيف سلاسل توريد المعادن الانتقالية 2- دعم النفط والفحم والغاز منخفض الدخل بالتكنولوجيا والمساعدات المالية لدعم التنويع الاقتصادي بعيدًا عن الوقود الأحفوري 3- ضمان الشفافية والمساءلة والمشاركة العامة في عمليات صنع القرار ، بما في ذلك أصوات الأشخاص الأكثر تأثراً بتغير المناخ وانتقال الطاقة ، على نحو ما ورد بإحدى الندوات عبر الإنترنت خلال قمة COP26 لمناقشة الفرص والمخاطر المرتبطة باستغلال المعادن الانتقالية في بلدان جنوب الصحراء الكبرى , ودور منظمات المجتمع المدني ذات الصلة بالمناخ من أجل تحقيق العدالة المناخية.
رابعاً : الانبعاثات فى الدول الغنية سيؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 2.4 درجة مئوية :
ويشير د محمد خفاجى أن الأمر الواقع ويمثل مرارة دولية , أن البلدان الرئيسية التي تطلق الانبعاثات ومعظم الدول الغنية لا تتحرك بالسرعة الكافية , وأن الواقع على مسرح الحياة اليومية سيؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 2.4 درجة مئوية ، مما يعرض كوكب الأرض لخطر شديد لا تحمد عقباه , وإزاء ذلك وعلى الجانب الأخر فإن الدول الكبرى والصناعية والشمال العالمي لا يضع أهمية كبرى على إيجاد أموال لمساعدة البلدان الأقل ثراءً في تنفيذ تحول الطاقة الخاص بها , خاصة رفض آلية تعويض الخسائر والأضرار ، عن طريق صندوق خاص وكل ما يدار فى هذا الشأن لا يعدو أن يكون نقاشاًوحواراً دون ثمة التزام واقعى .
خامساً : اناشد الصندوق الاستئماني الجديد للمرونة والاستدامة التابع لصندوق النقد الدولي دعم البلدان المتضررة
ويذكر الدكتور محمد خفاجى أن الأمل معقود فى الصندوق الاستئماني الجديد للمرونة والاستدامة التابع لصندوق النقد الدولي ، والذي يهدف إلى دعم البلدان في استجابتها لتأثيرات أزمة المناخ وتحول الطاقة لديها, ولا يزال هو الأخر يتعين تنفيذه بشكل صحيح يتفق ومنهج أزمة المناخ وتأثيراتها على الدول النامية , وعلى دول العالم الإسراع لتسهيل التنويع الاقتصادي والوصول إلى الطاقة النظيفة ونقل التكنولوجيا تجاه البلدان الناميةوالفقيرة الأكثر تضرراً من تغير المناخ , ويتعين أيضاً الاهتمام بموضوعات استخراج المعادن الضرورية لإنتاج وتخزين الطاقة المتجددة مثل الكوبالت والليثيوم والنحاس وما إلى ذلك بحسبان أن التعدين السيئ لا يمكن أن يوفر الطاقة النظيفة .
سادساً: التقاضي المناخى يرسخ الحقوق المناخية الاَمنة إذا أخفق التعاون الدولي
ويذكر د محمد خفاحى الرأى عندى أن التعاون الدولي في السياق متعدد الأطراف يعد أول أفضل طريق لتسوية منازعات المناخ , ويأتى التقاضي المناخى ثاني أفضل طريق فى مكافحة تغير المناخ , وهذه الأسبقية فى نظرنا تمثل الأسرع والأقدر فى مكافحة تغير المناخ فالقادة السياسيين أقدر من المحاكم الوطنية على القيام بهذا الدور , خاصة أن هناك صعوبات جمة لتحقيق العدالة بين الأجيال ، فالبعض يرى أنه لو تعمقنا فى حق التقاضى المناخى فإنه لا يمثل الصورة الأكثر ملاءمة لحماية الأجيال القادمة, صحيح أن قضاة العالم لديهم القدرة على الإبداع القانوني فى مجال المناخ ، لكن هذا الإبداع فى ثمرة حق التقاضي يتعلق بطبيعته بالنظر إلى الماضي أى ما أصاب الأجيال الحالية من مضار دون الأجيال المستقبلية , لكن هذه النظرة ليست صحيحة على اطلاقها لأن كل جيل من القضاة المبدعين يقدرون على مكافحة تغير المناخ للجيل الذى يعيش فى ظله المساس بالمناخ الاَمن .
مصدر الخبر | موقع اخبار اليوم