الدساتير والحقوق والحريات في العصر الرقمي (3) بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر
الواقع أن الحقوق والحريات العامة تحتل مكانة بارزة في نصوص الدساتير الحديثة والمعاصرة، ولكن الملاحظ هو أن الضمانات الدستورية قد وضعت لمواجهة تعسف السلطة العامة وإساءة استخدام سلطاتها في المساس بحقوق وحريات الأفراد. ولذلك، فإن المخاطب بالقواعد الدستورية هم رجال السلطة العامة.
وقد أبرز التطور التكنولوجي أن الفرد العادي يملك من الإمكانيات التكنولوجية ما لم يكن متاحًا للحكومات والجيوش في أزمنة سابقة، وبحيث غدا باستطاعته ووسعه اختراق حواجز الحياة الخاصة، والتنصت، وتسجيل المحادثات الشخصية للآخرين. بل قد وصل الأمر بالبعض إلى اختراق المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم، وهي البنتاجون.
إن التطورات التكنولوجية قد زودت الأفراد في عالم اليوم بالعديد من الإمكانيات والقدرات التي لم تكن متاحة في السابق سوى للجيوش. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نشير إلى أن شبكة الإنترنت بدأت في سنة 1969م، عندما قررت وزارة الدفاع الأمريكية إنشاء وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (ARPA) وكان هدفها حماية شبكة الاتصالات أثناء الحرب. وترجع فكرة هذا الاختراع إلى أوائل الستينات من القرن الماضي، حيث افترضت وزاره الدفاع الأمريكية وقوع كارثة نووية ووضعت التصورات لما قد ينتج عن تأثير تلك الكارثة على الفعاليات المختلفة للجيش، وخاصة فعاليات مجال الاتصالات الذي هو القاسم المشترك الأساسي الموجه والمحرك لكل الأعمال. ومن ثم، كلفت الوزارة مجموعه من الباحثين لدراسة مهمة إيجاد شبكه اتصالات تستطيع أن تستمر في الوجود حتى في حالة حدوث هجوم نووي، وللتأكد بأن الاتصالات الحربية يمكن استمرارها في حاله حدوث أي حرب. وهكذا، جاء الاختراع بأن يتم تكوين شبكة اتصالات Network ليس لها مركز تحكم رئيسي، فإذا ما دمرت أحدها أو حتى دمرت مائة من أطرافها، فإن على هذا النظام أن يستمر في العمل.
وعلى هذا النحو، يبدو جليًّا أن هذه الشبكة العنكبوتية كانت للاستعمالات الحربية فقط، وبدأت كمشروع خاص لوزارة الدفاع الأمريكية، وكانت هذه الشبكة بدائية وتتكون من أربعة أجهزة كمبيوتر، مرتبطة ببعضها بواسطة توصيلات الهاتف في مراكز أبحاث تابعة لجامعات أمريكية. كذلك، فإن أنظمة التواصل اللاسلكي كانت تستخدم في البداية بواسطة الأجهزة الأمنية والعسكرية فقط، قبل أن تنتشر أجهزة الهواتف المحمولة والهواتف الذكية بأيدي الفرد العادي، وبحيث أصبح ميسورًا له القيام بالعديد من الأعمال التي كانت حكرًا في السابق على الجهات السيادية فقط.
وإذا كان هذا هو شأن الفرد العادي، فماذا يمكن أن نقول على الإمكانيات الهائلة للشركات العملاقة؟! ولاسيما في مجال العالم الافتراضي مثل جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها؟! إن هذه الشركات تتوافر لديها البيانات الشخصية لكل الأفراد والشركات حول العالم، بحيث غدا ممكنًا لها التحكم والتدخل في الحياة الشخصية وممارسة الحقوق والحريات العامة بوجه أو بآخر.
كذلك، أصبحت هذه الشركات تشكل خطرًا حقيقيًا على الأمن القومي للدول. ولقد سبق للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته (دونالد ترامب) أن أصدر أمرين تنفيذيين معتبرًا فيهما أن بعض التطبيقات المملوكة لشركات صينية تشكل خطرًا على الأمن القومي الأمريكي. كذلك، اعتبر أن تكنولوجيا الجيل الخامس التي تحتكرها شركة واوي الصينية HUAWEI تشكل خطرًا على الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين.
وفي مقابل زيادة قدرات وإمكانيات الشركات العملاقة والأفراد، تحدث بعض الكتاب عمّا أسموه (أفول الدولة القوية).
فخلال الثلاثين عامًا الماضية، كتب كثيرون عمّا أصاب الدولة القوية من ضعف، مع نمو قوة الشركات العملاقة وازدياد نفوذها وسطوتها. ووفقًا لرأيهم، فإن هذه الظاهرة والحقيقة الجلية الساطعة تزداد وضوحا مع مرور الوقت، ولا تقتصر على منطقة في العالم دون غيرها.
وعلى حد قول الكاتب الراحل الكبير (جلال أمين) لا يمكن أن نتوقع أن يكون ما أصاب الدولة من ضعف متساويًا بين بلدٍ وآخر، فالظروف السياسية تفرض هذا الاختلاف بين الدول في درجة تخليها عن مسئولياتها الاقتصادية. فالدولة مازالت تحتفظ بدرجة عالية من القوة في الاتحاد السوفييتي مثلًا أو في الصين أو إسرائيل، أكثر مما نجده في بلد كالهند مثلًا أو اندونيسيا.
لكن التسارع في معدل أفول الدولة القوية منذ بداية التسعينات أصبح ظاهرة تكاد تكون عامة في العالم ككل. بل إنه ليس من الشطط أن نحاول فهم ما حدث في العالم العربي منذ هجوم (صدام حسين) على (الكويت) في (1990م)، ثم سقوط نظام صدام حسين نفسه في (2003م)، ثم ما توالى على العالم العربي من أحداث منذ (2010م)، والذي سميَ (الربيع العربي) في إطار هذه الظاهرة العامة، أي أفول نظام الدولة القوية.
وفي ظل هذا الوضع المستحدث، والذي أسفر عن ظهور شركات عملاقة تزداد قوة على حساب القوى التقليدية، ممثلة في السلطات العامة، يبدو من الطبيعي أن يتم تطوير المنظومة القانونية التقليدية وتطوير عملية صناعة الدساتير، بحيث تعكس الوقائع المستجدة في عالم الواقع.
مصدر الخبر | موقع نقابة المحامين