المقالات القانونية

المستشار الدكتور مساعد عبدالعاطي | يكتب لقاضي أون لاين عن التصرفات الانفرادية الإثيوبية.. والدولة المارقة في القانون الدولي

ترسخت عبر قرون مضت عدة مبادئ قانونية عرفية من خلال ممارسات لاستخدامات الدول المشتركة في انهار دولية، وأضحت تحظي بالاحترام والالتزام القانوني بقصد تحقيق الاستخدام المنصف و المعقول لكل الدول المشاطئة لهذه الأنهار، ومن أهم تلك المبادئ القانونية وحدة وذاتية النهر الدولي المشترك باعتباره ملكية مشتركة للدول المشاطئة له، ومبدأ تحقيق الاستخدام المنصف و المعقول وفقا لعدة معايير موضوعية و قانونية من اهمها مراعاة مدي اعتماد كل دولة علي مصادر المياه لديها، و عدد السكان لكل دولة، و الوضع المائي والجغرافي، والاستخدامات السابقة و الحالية ،ز التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية.

و هناك مبدأ اخر مرتبط المبدأ السابق ويتضمن ضمان عدم إلحاق الضرر بباقي الدول الاخري عند استخدام المنصف والمعقول لمياه النهر الدولي المشترك من قبل أي دولة أخرى، وأيضا من المبادئ الهامة التعاون والتضامن بين دول النهر الدولي المشترك في كل ما يتعلق بحمايته و تنميته من خلال تبادل المعلومات المرتبطة بذلك المورد الطبيعي بصورة دورية، وذلك فضلا عن التقييد بمبدأ احترام الحقوق المائية المكتسبة لكل الدول.

ومن الناحية الرسمية الدولية قننت الاتفاقية الإطارية للأمم لقانون استخدامات الأنهار الدولية في غير الاغراض الملاحية لعام 1997 ، هذه المبادئ القانونية جميعها، وأضافت إليها مبادئ مستحدثة أهمها مبدأ التزام الدولة صاحبة المشروع المائي علي نهر دولي مشترك بالقيام بدراسات الأثر البيئي جراء إقامة مشروعها، وأيضا مبدأ ضمان و سلامة ومعايير السدود المقامة على أنهار دولية.

ومبدأ إلزامية التعاون المشترك يعد الأساس النظري والفلسفة العامة للقانون الدولي للانهار الدولية بشأن استخدام المجاري المائية الدولية ، واستوحي هذا المبدأ من القانون الروماني، والذي ينطلق من أن النهر الدولي بحسبانه وحدة طبيعية، فإنه يعد بأكمله ملكاً مشتركاً لجميع الدول التي يجري النهر في أقاليمها ، وبالتالي فلا يجوز قانونيا لأي دولة القيام بتصرفات احادية، تتناقض معرطبيعة ذلك النهر.

وقد عبّرت محكمة العدل الدولية الدائمة (وهي المحكمة التي أنشأت في عصر عصبة الأمم قبل نشأة الأمم المتحدة والتي حلت محلها حاليا محكمة العدل الدولية) عن المبدأ عندما نظرت قضية نهر الأودر بقولها: «إن تضافر المصالح والتعاون المشترك في نهر صالح للملاحة يصبح الأساس لحق قانوني مشترك، ومن أهم مظاهر هذا التضافر المساواة التامة بين كافة الدول المشاطئة في استخدام كل مجرى النهر واستبعاد أي ميزة تفضيلية لأي دولة مشاطئة بالنسبة للدول الأخرى».

وفي حكم قضائي لذات المحكمة في عام 1937، فيما يعرف بقضية اللجنة الخاصة بنظام نهر الميوز ، بشأن سحب المياه من نهر الميوز “LA MEUSE” بين هولندا بلجيكا، وهو نهر ينبع في شمال شرق فرنسا، ويتدفق عبر بلجيكا وهولندا إلى بحر الشمال ، حيث يشكل دلتا مشتركة مع نهر الراين ، وقد قضت صراحة بأن مشروعات الدولة على أراضيها لا يجب أن تؤثر على حجم المياه فى الدول المتشاطئة (قضية نهر “الميوز” “”LA MEUSE) ومبدأ حرمان قيام الدولة على أراضيها بإجراء تغيير أو تعديل مياه النهر إذا ترتبت على ذلك أضرار جسيمة بدولة متشاطئة.
وأشارت المحكمة أيضا في متن حكمها القضائي هذا إلى أنه على الرغم من أن هناك اتفاق مبرم بين الدولتين إلا أن ذلك لا يمنع دون تحقيق مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لكل الدول عند استغلال مياه النهر المشترك، وفي ظل التقييد بالالتزام القانوني الدولي الجوهري في مجال استخدام الأنهار الدولية المشتركة في غير الاغراض الملاحية في غير الاغراض الملاحية ، وهو عدم إلحاق الضرر بالاطراف الاخري في منظومة النهر الدولي المشترك.
وفي ظل ميثاق الأمم المتحدة جاءت محكمة العدل الدولية بحكم قضائي تاريخي في مجال استخدام الأنهار الدولية المشتركة في غير الاغراض الملاحية ، فيما يعرف بقضية مشروع غابتشيكوفو – ناغيماروس بين المجر وسلوفاكيا المنفصلة عن دولة تشيكوسولوفاكيا، ومن حسن الطالع أن الحكم استلهم عدة مبادئ قانونية من احكام الاتفافية الاطارية للأمم المتحدة لقانون استخدامات الأنهار الدولية في غير الاغراض الملاحية والتي صدرت في هذا العام الذي صدر فيه الحكم الماثل في عام 1997، حيث قررت المحكمة أن طبيعة النهر الدولي المشترك تلقي بالتزامات قانونية علي كافة الدول المشاطئة له واهمها عدم الحاق اي دولة الضرر بباقي الدول الاخري ، لذلك أعتبرت المحكمة أن تشيكوسلوفاكيا بسيطرتها من طرف واحد على مورد مشترك، وبالتالي حرمان المجر من حقها في حصة منصفة ومعقولة من الموارد الطبيعية لنهر الدانوب، فإنها تكون بذلك قد أخفقت في احترام التناسب الذي يتطلبه القانون الدولي ، وأن استقلال سلوفاكيا عن الدولة الأم تشيكوسولوفاكيا لا ينال من مسؤولياتها القانونية الواردة في الاتفاقية الموقعة بين المجر و تشيكوسولوفاكيا عام 1977 ، وأن اتفاقيات الأنهار الدولية تتوارثها الدول شأنها في ذلك شأن اتفاقيات الحدود الدولية.
وبإنزال وتطبيق هذه الأحكام القضائية الدولية المرتبطة باستخدامات الأنهار الدولية المشتركة في غير الاغراض الملاحية علي حالة السد الاثيوبي و بصفة خاصة علي التصرفات الأحادية التي قامت بها إثيوبيا في يوليو الماضي من خلال الملء الأول، وحاليا نجد إصدار قادة الدولة الإثيوبية بمختلف الدرجات تصدر تصريحات رسمية يدنيون بها اثيوبيا دوليا بشأن القيام بالملء الثاني في يوليو القادم بصورة احادية ، ثم أعقبت تلك التصريحات بالقيام بالإجراءات التنفيذية لبدء هذا التخزين الثاني من خلال تجفيف الممر الأوسط للسد في تصرفات انفرادية تمثل انتهاكا قانونيا صارخا لكل قواعد القانون الدولي للأنهار الدولية، وأيضا لأحكام القضاء الدولي وهيئات التحكيم الدولية ، بل والأهم هنا خرقها الفاضح لمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة بخاصة في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين، الأمر الذي يصمها من الناحية القانونية بوضعية الدولة – المارقة – التي تخرق بتعمد إرادة سياسية لكل الالتزامات القانونية الدولية، وتهدد السلم والأمن الدوليين، مما يحملها بتبعات المسؤولية الدولية مستقبلا في حالة تهديد وجود دولتي المصب مصر و السودان.
وختاما؛ نوصي بأهمية استمرار الضغط المصري والسوداني في فضح إثيوبيا امام المحافل الدولية والإقليمية وشرح هذه الانتهاكات، وذلك بعد نجاح البلدين مؤخرا في تعرية إثيوبيا امام المجتمع الدولي، فضلا عن هذه الجهود من شأنها مستقبلا ضمان تحقيق مبدأ الأمان القانوني لمصر و السودان وذلك ربطا بمبادئ المسؤولية الدولية، و التعويل عند إعادة طرح النزاع قريبا علي مجلس الأمن الدولي علي رصد الانتهاكات القانونية المختلفة وربطها بتهديد حالة السلم والأمن الدوليين في شرق أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى