حوار من التراث القضائي | المستشارة هند طنطاوي أول إمرأة تتولى رئاسة هيئة النيابة الإدارية تتحدث عن حياتها القضائية والاسرية كما لم تتحدث من قبل
نأخذكم اليوم لنعود بكم إلى الماضي لــ نبحث بين ثنايا الصحف عن أهم الأحداث في تاريخ القضاء المصري والعربي و نسترجع سوياً لحظات عاصرها البعض منا ، تلك الأحداث التي ستبقى خالدة في ذاكرة التاريخ ،
اخترنا لكم اليوم حديث ممتع وشيق للمستشارة الراحلة هند طنطاوي – أول سيدة تتولى رئاسة هيئة النيابة الإدارية- حيث تولت رئاسة الهيئة لمدة سنتين خلال الفترة من 1998/9/10 حتى 2000/6/30
المستشارة هند طنطاوي – رحمها الله – مواطنة مصرية تحلت بالقيم و رفضت التخلي عنها ، صنعتها أم عظيمة فنجحت بجدارة في الجمع بين العمل و الأسرة ، ضميرها هو رئيسها في العمل فلم يكن عليها سلطان سوى الله فأصبحت الغائب الحاضر ………. فـــ إلى نص الحوار :
* بعد مضي ما يقرب من سنة على توليك منصب رئيس هيئة النيابة الإدارية هل استقرت الأمور وصمت المعارضون لك ؟؟
أولاً أنا لم أكمل سنة على تولي المسئولية ، لكن في كل سنوات عمري السابقة منذ أكثر من 40 سنة و أنا استجمع خبرات النيابة الإدارية ، و لذلك عندما توليت الموقع لم يفاجئني أي شئ ،
و كذلك جميع الزملاء و الأبناء الذين أعمل معهم هم عشرة السنوات الطويلة ، و علاقتي بهم إما علاقة الام المحبة لأبنائها ، أو علاقة الإخوة و الصداقة للجميع ، وهم الغالب الأعم ،
أما القلة النادرة التي تخرج عن هذا الصف ، فهؤلاء تنطبق عليهم مقولة : النادر في حكم المعدوم ، و بالتالي فلا يشعر بهم أحد .. وفي النهاية كلنا نعمل لــ حساب الله و لا سلطان علينا إلا ضمائرنا .
**** ما أهم قضية تشغل تفكيرك هذه الأيام ؟؟
في تقديري هي قضية الارتفاع بمستوى الأداء بالنيابة الإدارية .. بداية من الاهتمام بتنظيم دورات تدريبية لمعاوني و مساعدي أعضاء النيابة ومتابعة سير العمل في القطاعات التي أنشأتها
فقد قمت بتقسيم الجمهورية إلى ستة قطاعات رئيسية يشرف عليها كبار نواب رئيس الهيئة و كل قطاع يشرف على عدة قطاعات فرعية تهدف إلى تحقيق سرعة العدالة .
*** هل لنا أن نعرف أهم التحقيقات التي يجريها مكتب رئيس الهيئة الآن ؟
يوجد في مكتبي عشرات القضايا المهمة ، بل بالغة الأهمية ، لكن نظراً لأنها محل التحقيق و لم يتخذ فيها قرار ، فلا يحق لنا الحديث حولها .
*** وهل تشمل هذه التحقيقات شخصيات على مستوى عال؟؟؟
تشمل وكلاء أول وزارة و مديرين و رؤساء قطاعات و فئات أخرى .
*** عندما يكون التحقيق مع مسئول كبير بدرجة وكيل اول وزارة .. هل يتولى التحقيق معه عضو نيابة عادي ، أم مسئول بالنيابة الإدارية ؟؟
ليس هناك قيد أو شرط أن يكون مسئولاً كبيراً بالنيابة ، لكن غالباً ما نراعي في البلاغ المقدم ضد مسئول كبير أن يجري التحقيق معه مسئول بدرجة رئيس نيابة .
*** وماذا بعد ثبوت تورط هذا المسئول أو ذاك ؟؟
عندما نتأكد أنه متورط وأن الاتهام ثابت ضده لا يكون لدينا فارق بين الكبير أو الصغير .
** في رأيك لماذا يتردد على ألسنة العامة و الخاصة أقاويل بأن القانون لا يطبق ، وأن يوم الحكومة بسنة؟؟
أنا لا أفكر أن هذه المقولات تتردد ، لكنها تخاريف ، لأن كل شئ يتم بالقانون ، فالحاكم و المحكوم و الموظف و المواطن العادي جميعهم محكومون بالقانون.
** لكن إلى أي مدى تتغلب روح القانون على نصه ؟؟
نحن نتعامل مع القانون بناء على أصول و قواعد محددة .
و عندما نتعامل معه ، نحن لا نتعامل مع مجرمين أو قتلة أو لصوص ، بل المعاملة تحكمها الأصول و المستوى الراقي جداً .
فالموظف العام عندما يرتكب خطأ لابد أن يخضع للمساءلة وكلنا معرضون للخطأ لأننا بشر ، و هذا ينعكس على أسلوب التحقيق ، و القرار في شأنه و غالبية القرارات لا تستهدف عقاب الموظف ، و إنما حسن سير المرفق العام ،
فأنا أوقع عقاباً حتى يسير المرفق على النحو الأمثل ، و العقاب هنا يستهدف ألا يرتكب الخطأ مرة أخرى ، و في النهاية يجب ألا نغفل أن القانون قوي دائماً و العبرة تتعلق بأن كل من له حق لابد أن يطالب بأخذه بالقانون.
*** لنطرح القانون جانباً و نسألك حول أحوال المرأة العربية هل ترضيك هذه الأحوال؟؟
ترضيني جداً ، لأن المرأة العربية تقدمت بخطى سريعة جداً في كل الدول العربية ، و أصبحت فعلاً قادرة على المشاركة الحقيقية ،
و هناك نساء عربيات أصبحن يمثلن بلادهن في أدوار تنافس النساء الغربيات .. و أضرب لك مثالاً بالقاضيات التسع العربيات اللاتي مثلن بلادهن في القاهرة منذ شهور ،
لقد بهرتني شخصياتهن القوية و حضورهن الطاغي ، وقد كن قاضيات بمعنى الكلمة ، وكانت إحداهن عضواً في المحكمة الدستورية العليا في السودان .. هل تتخيل هذا الموقع ؟! إنه قمة السلطات القضائية و أكثرها تعقيداً .
*** على ذكر القضاء ، هل لديك توقع حقيقي بأن المرأة القاضية في مصر قادمة قريباً ؟؟
أظن أنها قادمة فعلاً ، لكن لكل مقام مقال ، ولكل قرار توقيت ، و أنا شخصياً ثقتي كبيرة جداً في القيادة السياسية في مصر ، والمسألة فقط مجرد وقت وليست القاضية فقط ، بل المحافظ و رئيس الحي أيضاً.
** أية إمرأة كانت مثلاً أعلى للمستشارة هند طنطاوي ؟؟
أمي أولاً و أمي ثانياً وأمي عاشراً ،
فهذه السيدة هي التي صنعتني و جعلت مني شخصية مفيدة و نافعة بتربيتها لي وبقراءتها لملكاتي ، و أتذكر أنني كانت أمنيتي أن أصبح طبيبة قبل امنية القاضية ، و عندما عرضت عليها ذلك قالت لي سوف تصبحين طبيبة فاشلة ،
و منذ نعومة اظافري تجهزني للقضاء ، و تقول لي إن هذا المجال هو قدري .. لم تكن متعلمة ، و لكنها كانت مثقفة جداً .. كانت تمتلك البصيرة و الرؤية البعيدة ، كانت سيدة سبقت زمانها و صنعت من عائلتنا قصة نجاح باهرة.
*** إذا كانت امك كل هذا .. فلماذا هناك إحساس عام بأن غالبية أمهات هذه الأيام فاشلات ؟؟!
هذا يرجع إلى أن هذه الأيام – خاصة العاملة – تخلت عن دورها و ابتعدت عن مهمتها الأساسية ” الامومة و الأسرة ” وبموجب دورها في المجتمع ، و كونها أصبحت تتولى بعض المهام الكبيرة بدأت تتخلى عن بيتها و قدمت نفسها و عملها على الأسرة ، فتراجعت أحوال الأسرة .. ورغم أنني من السيدات العاملات و لست ضد عمل المرأة ، إلا أنني أقول للمرأة اختاري الأسرة على العمل إذا فشلت في الجمع بين الاثنين .
*** هل أساليب و تقليد الغرب أدى إلى الحاق الضرر بالأسرة ؟؟
نعم.
الفساد يرجع إلى التربية الصحيحة المفتقدة في بيوتنا ، لأن الأساس هو الأسرة ، و الأساس هو الإصلاح فيها ، و إذا كانت هناك تربية سليمة و إصلاح جيد – و أعني بالإصلاح الرعاية المستمرة – لن يؤثر التقليد و لن تنال الميوعة و لا التحرر من أولادنا شيئاً .
*** هل تقبلين أن ترتدي ابنتك أو حفيدتك ” استريتش” ؟؟
لا طبعاً .. لا أقبل ذلك .
و لم يحدث في عائلتي ، لأن هذا دليل انحراف و ليس دليل رقي ، بقدر ما هو دليل هبوط ، و اعتراضي يأتي من موجب أنه يسهم في تراجع القيم.
*** و ماذا عن المرأة في محكمة المنزل او من قبل الزوج ؟؟
العلاقة بين المرأة و الرجل في إطار الزوجية لابد أن تكون راقية يسودها الاحترام المتبادل ، و لابد أن تكون المراة متزنة و ملتزمة ” بــ البلدي تعرف الأصول ” .
** من أية زاوية تلمحين الخلل في المرأة ؟؟
الخلل غالباً ما ينبع من المرأة نفسها لأنها لا تشعر بالدور المسند إليها ، و هو دورها كــ أم و زوجة .
** و أنت رئيس هيئة بدرجة وزير ماذا يكون شعورك عندما يرتفع صوت زوجك لك بالتوبيخ ؟؟
علاقتي بزوجي لها خصوصية منذ عشرات السنين ، هذه الخصوصية يحكمها التفاهم الشديد ، و قد نختلف ، لكن الاختلاف يكون على أسس و قواعد يعلو فيها رأي الزوج ، لأنه رئيس المنزل و رب الأسرة ، و الرئيس هو صاحب القرار النهائي بحكم قيادته . أما إذا كان المنزل بلا قائد ، فأظن أن هناك حالة فشل سوف تلازم هذه الأسرة .
** و هل تصلح قيادة المرأة للمنزل ؟؟
المرأة بطبيعتها لا تحب القيادة و المسئولية ، و إذا حدث و كانت هناك إمرأة تدير المنزل و الرجل لا وجود له ، فلابد أنه رجل ضعيف .
** هل تدخلين المطبخ ؟؟
طبعاً .. وبشكل يومي ، بل إنني اعتبر المطبخ حياتي و فيه حياة أسرتي ، و حتى لو عاونني فيه أخريات ، فلابد ألا اترك أي شئ يتعلق بأسرتي للطباخين و الشغالين .
** في تقديرك .. هل القرن القادم هو قرن النساء ؟؟
لا أريد و لا أتمنى أن تتحقق هذه المقولة ، بل أريده قرناً للرجل و المرأة ، أريده عصراً تأخذ فيه المرأة مكانها بجانب الرجل لتخفف عنه العبء و تشاركه في كل شئ ، لأنه ليس من الطبيعي أن تستقيم الحياة برجل واحد أو بــ إمرأة واحدة .
*** ننتقل من الحديث عن المرأة إلى قضية أخرى .فالدولة المصرية تولي الآن عناية خاصة لتحسين أحوال الجهاز التنفيذي ، و الجدل على أشده حول فساد المحليات .. فهل من واقع التحقيقات يمكننا معرفة حجم هذه الأزمة؟؟
من واقع شغلنا في التحقيقات يتضح أن معظم المشاكل تنتج عن عدم تحديد الاختصاصات لكل موظف بالدولة و الدرجة التي ينقل إليها ، و من ثم فمعرفة الدور المنوط بكل شخص تتيح الفرصة لكي تتضح الأمور بدلاً من حالة التوهان و الفوضى الحادثة الآن.
*** و هل النيابة الإدارية كــ جهاز قضائي متخصص له الحق في تحديد هذه الاختصاصات ؟؟
نحن لنا اختصاص أصيل معني بإجراء التحقيق في المخالفات المالية و الإدارية ، فضلاً عن اختصاصات فرعية أخرى ، وإجراء التحقيق ليس المقصود به عقاب الموظف ، لكنه فقط الردع للآخرين .
*** بالأرقام كم قضية و كم شكوى تفحصها الهيئة ؟؟؟
طبقاً للعام الماضي و السنوات السابقة فالقضايا كثيرة جداً فمثلاً في عام 97 ورد إلى النيابة الإدارية أكثر من 68 ألف قضية ، و قد بلغ عدد المخالفات المالية فيها أكثر من 44 ألف قضية ، في حين بلغ عدد المخالفات التي تشكل مخالفات إدارية أكثر من 23 ألف قضية .. كما بلغ أيضاً عدد الشكاوى المقيدة بجداول العرائض أكثر من 33 ألف شكوى .
** و ما أبرز المخالفات المالية التي تتناولها التحقيقات؟؟
أكثر هذه المخالفات تتمثل في مخالفة أحكام المناقصات و المزايدات و المخازن و المشتريات ، و مخالفة القواعد و الأحكام المالية المنصوص عليها بالقوانين و اللوائح المعمول بها، واحكام ضبط الرقابة على الميزانية العامة ، ثم الجرائم العمدية التي يترتب عليها صرف مبالغ الدلوة دون وجه حق ، وبعد ذلك مخالفات الإهمال و التقصير .
** و هل تكشف التحقيقات عن جرائم جنائية ؟؟
كثيراً ما يكشف تحقيق النيابة الإدارية للجرائم التأديبية التي تقع من العاملين الخاضعين لولايتها عن ارتكابهم لجرائم جنائية تشكل إخلالاً بواجبات الوظيفة أو خروجاً على مقتضياتها ، و قد تصل هذه القضايا إلى أكثر من عشرة آلاف قضية .
*** ما الدافع الذي جعلك تصرحين بأن المرحلة المقبلة سوف تشهد تنامياً كبيراً في الفساد؟؟
هذا الكلام كان فيه تجاوز من الصحفية التي نشرته.
*** لماذا لم تبادري بالتكذيب و ترسلي إليها الرد ؟؟
ليس لدي وقت لكي أرد على كل كلمة ، و الحمد لله النيابة علمتني أن أعمل و أعمل ، و مادمت أراعي الله في كل ما أقول فلا داعي للقلق .
** هل من الممكن أن تضلل العدالة ؟؟
نحن لا يمكن أن نحيل شخصاً ما إلى المحاكمة او نطلب مجازاته إلا إذا ثبتت أدلة إدانته ، و اقتنع المحقق بهذه الأوراق و المستندات التي أمامه ، و كذلك الأدلة المساعدة ، مثل الشهود و بعض اللجان الأخرى .
وأيضاً يتم مراجعة القضية في أكثر من مستوى ، و قد تصل إلى رئيس الهيئة إذا كانت قضية خطيرة . و في خضم هذه القضايا نفترض أن المحكمة عرضت عليها الأوراق، و عند وزن الأدلة و لعدم ظهور أدلة أخرى تم اتخاذ القرار ، وقد يتم تخفيف القرار بعد ظهور أدلة اخرى و قد تمنع هذه الأدلة تنفيذه عندما تثبت إدانة أشخاص آخرين .
*** لكن الأساس في تضليل العدالة هو مجرى التحقيق ؟؟
التحقيق يتم في ضوء المتاح من المعلومات.
*** وهل من الممكن أن يدس على المحكمة بعض المستندات للزج بــ أبرياء ؟؟
الحقيقة وارد أن يحدث ذلك ، لكن نادراً .. وانا شخصياً عاصرت قضية خطيرة عرضت علينا فيها مستندات وافية و اتخذنا فيها القرار ، ثم أخطرتنا جهة رقابية بمستندات أكدت براءة الشخص الأول ، و اتضح أن هناك بعض الأوراق دُست على المحكمة ، و من ثم أُريد بها تضليل العدالة ، لكن المهم أننا نتدارك الموقف.
*** و ماذا عن الإنسان المقهور الذي لا يصل صوته إليكم ؟؟
أنا أطلب من كل شخص له حق أن يتوجه إلى النيابة مباشرةً أو إلى مكتبي شخصياً ، و قد أعطيت تعليمات بذلك منذ اليوم الأول برعاية كل شكوى حتى لو كانت من سطر واحد أرسلت عن طريق التلغراف ، ولــ يعلم الجميع أن النيابة الإدارية هي الملجأ لهم ، و هي الملاذ ، و هي طوق النجاة ، و هذه التصريحات ليست للاستهلاك المحلي ، بل هي حقيقة تحتل الصدارة في أجندة أعمالي .
نشر هذا الحوار بتاريخ 17 ابريل 1999 مجلة الأهرام العربي